الأحد، 13 فبراير 2011

عندما يتحدث المنتحرون عن الانتحار( من وحي وفاة شهيد تونس محمد البوعزيزي)

عندما يتحدث المنتحرون عن الانتحار!!!

(من وحي وفاة الشهيد محمد البوعزيزي وما دار حولها من لغط)

تكشف الوقائع والأحداث أن المثقف في العالم يتخلف وعيه عن تقدم التقانة ومعانيه الفلسفية ومقتضياته الإنسانية، ويتخلف وعيه عن حركة التاريخ وتقدم الاجتماع الإنساني، كما يتخلف وعيه عن تطور الضمير الإنساني، وهذا التخلف هو التفسير الوحيد لحالة التكيّف العام الذي يعيشه المثقف مع المظالم العالمية، والأوضاع السائدة غير الإنسانية، والمشكلات التي تهدد مستقبل البشرية، وتتعارض مع استمرار الحياة على هذا الكوكب.

إن هذه المظالم والأوضاع والمشكلات نشأت في مجملها لأن العالم يقاد ويحكم استنادا إلى فلسفات غير إنسانية، متخلفة عن متطلبات العصر، عاجزة عن تأمين مقتضيات اللحظة الإنسانية الراهنة.

ويبلغ تخلف المثقف مداه عندما يتعلق الأمر بالمثقف الديني الذي يمكن النظر للبابا الحالي كنموذج ومثال عليه، والذي صرح في مناسبات كثيرة تصريحات تنتمي لحقبة ما قبل اكتشاف كروية الأرض ورأس الرجاء الصالح ودخول العالم الحديث على أحسن تقدير.

وتبدو هذه المفارقة أكثر وضوحا في السياق العربي الإسلامي، حيث يعجز المثقف العلماني (النزيه) عن الاتصال الفعال مع الجماهير التي يحمل همومها ويعاني من أجلها، ويقبع المثقف الديني ( النزيه) في قاع الماضي، يتحدث بلغته وينظّر ويقارب الأوضاع من خلاله، تجلت هذه الحقيقة بكل الوضوح الممكن في الإنجاز الذي سجله المواطنون التونسيون قبل أسبوع، حيث أرهق التقدم الحثيث للشعب التونسي مثقفيه، ولما وصلوا إلى باب القصر الرئاسي أو قربه كانت قد خارت منهم كل عزيمة، وانقطع فيهم كل نفس، فارتموا على أعتاب قصر السلطة، ولم يجدوا إلا اقتسام الغنائم مع بقية مرتزقة النظام، واعتبروها بداية طيبة وضربة موفقة، وغنيمة ترضي الطموح، لكن المفاجأة كانت عندما نزل الشعب إلى الشارع احتجاجا على هذه القسمة الضيزى، والثمن البخس لدماء شهدائه، وعندها أحس المثقفون أنهم خانوا دماء الشهداء بطريقة فضائحية، فتراجعوا عما كانوا قد شرعوا به من قبل، وكان النقابيون أشد جرأة، فأعلنوا عن توبتهم بالانسحاب من الميدان السياسي( كقوة حكم) مرة واحدة، فيما لم يتمكن مثقفون آخرون يسيل لعابهم لمنصب مهما كان وزنه من اتخاذ خطوة بنفس المستوى.

وكانت الفضيحة أبعد غورا عندما بدأ خزنة الجنة ووكلاء النار وبائعو صكوك الغفران في تحديد الجزء المقسوم لكل منهما فيما تمخضت عنه الأحداث في تونس، فصادر سادن طاغية تونس على ميتة البوعزيزي معلنا أنها مخالفة للمواصفات والمقاييس المعتبرة لسكان الجنة الذين يعرفهم، (ربما كان يتحدث عن حمامات الطاغية )، وحتى يرفع خسيسته عند سيده أفتى بعدم جواز الصلاة عليه حتى يعتبر غيره فلا يتجرأ على العصيان وتعكير الأجواء وإقلاق النوم العام، وسنده في ذلك ما هو معروف من حرمة الانتحار وعدم جواز الصلاة على المنتحر، ولم يتحفنا هؤلاء بمعنى الانتحار ولم ينتبهوا قط إلى ما يفعله الطاغية، ولا إلى ما يفعلونه في خدمة الطاغية، فإذا كان بوعزيزي قد قام بما يخالف (الشرع)، فهل كان طاغية تونس شرعيا؟ وأين كان علم المفتي؟ بل نقول هل كان للشرع حكم مما كان يفعله الطاغية؟ وإذا كان له مثل ذلك فلماذا لم يعلنوه مرة واحدة؟ إذا كان الانتحار محرما لأن الحياة هبة من الله، أليس انتحارا ولكن بطريقة أخرى نذر هذه الهبة لخدمة الطغاة وتلميع صورهم وشهادة الزور لهم؟ لقد أودى أبو عزيزي بحياته بالطريقة التي تعرفون، لكن هؤلاء الذين يمضون أعمارهم في خدمة الطاغية أليسوا منتحرين من نوع آخر، بل أقول هل يمكن أن نقارن بين ميتة تهب الحياة لتونس، وحيوات تميت ملايين البشر في شرق العالم وغربه؟ آلا ساء ما يحكمون!

إذا كانت وفاة البوعزيزي غير شرعية! فمما لا شك فيه يا سادتي أن حياتكم غير شرعية، وكيف يمكن أن تختم حياة فيها كل هذا الزور والبهتان والسحت والذلة بوفاة (شرعية)، لقد عاش البوعزيزي يكد ويجتهد في السعي على عائلته، ليجبر فقرهم ويستر عريهم ويصون عرضهم، ولا شك أنها حياة كريمة مقبولة بمقاييس الشرع أي أنها (شرعية).

لقد كانت حياته حياة لذويه، وكانت وفاته حياة لتونس، فأي بركة كان هذا الشاب على أهله وبلده بل وأمته؟

أما أنتم يا سادتي فكيف تعيشون؟ وماذا تصنعون؟ أنتم تطوفون حول الصنم، وتقومون بدور سحرة المعبد، وتلّبسون على الناس، وتتبرعون بشهادة الزور وتعيشون على السحت الذي يجود به الطاغية من عرق الفقراء، فهل هذه الممارسات (شرعية)؟ فأي بلاء وأي نكبة على الأمة أنتم وحياتكم؟

من غير شك أنكم دون البوعزيزي في محياكم ومماتكم!

إن العقول الميتة لا تستطيع أن ترقب الحياة وتلاحظها وهي تتولد من ثنايا الموت، وتخرج من ثنايا الغيب، وهي أعجز من أن تلاحظ وترقب الحياة التي فجرها في دماء التونسيين موت البوعزيزي، أنتم يا سادتي تعيشون هذه الحياة الذليلة في خدمة الطاغية خوفا على المكانة والجاه والسلطان والثروة والحياة، وبوعزيزي جاد بحياته كي يهب حياة لتونس ولشعب تونس، فأية ميتة مات محمد بوعزيزي وأية حياة (تحيون)، إن كنتم أحياء حقا؟

لقد طلب أمثلهم طريقة من ربه أن يغفر للبوعزيزي طريقته التي اختارها للموت، وأنا أسأل الله له ولأمثاله أن يغفر لهم طريقتهم في الحياة!

وقال آخر أنه يفتي بحرمة الموت بهذه الطريقة، وأنا أفتي بحرمة أن يتصدى أمثال هؤلاء للإفتاء وتوجيه الجمهور وبحث القضايا العامة لأنهم في كل مرة لا يفقهون، ولم ينطقوا يوما إلا عن فضيحة، وهم في جل ما يقولونه صدى باهت للطاغية، وصورة ممقوتة لشاهد الزور، وحضور ميت في حياة الأمة، وليس أدل على ذلك من مقاطعة الأزهر لحوار الفاتيكان! إن الناس يا مشايخنا (الكرام) يعلمون أنكم لم تحاوروا البابا لأنه محب للسلام ولم تقاطعوه لأنه أهان الإسلام، إنها رغبة فرعون ومشورة هامان! والاسلام يبرأ إلى لله منكم أنكم لم تنصروه يوما، ولم تشهدوا من أجله لحظة، وإلا لتوجب عليكم أن تذكروا شهيد تحقيق تفجيرات الكنيسة شهيد الإسكندرية الذي قضى تحت التعذيب في أقبية (أمن) الفرعون, المرحوم سيد بلال!

لقد تحدثتم عن ضوابط شرعية للاحتجاج، ولكم تمنيت أن أرى احتجاجاتكم وأتعلم الضوابط الشرعية التي عنها تتحدثون!

هل الطواف بقصر الفرعون احتجاج بالضوابط؟ هل العمل بدوام كامل كشاهد زور كلما أمر الفرعون احتجاج بالضوابط؟ هل العمل كوكيل للدفاع عن الطاغية ومسالكه، وتجاهل الواقع وآلام الناس ومبادئ القرآن احتجاج بالضوابط؟ لماذا تثيرنا وفاة البوعزيزي ولا تثيرنا آلاف الوفيات والحيوات التي يصادرها الفرعون في سجونه؟ مسكين هذا الشرع كم نفتري عليه! ومسكينة كلمة شرعي كم مسخت وظلمت وكم استخدمت بطرق غير شرعية!

يا من تتحدثون عن الضوابط الشرعية في ميتة محمد بوعزيزي أرجوكم كفوا عن الافتراء على الشرع، أين كانت هذه الضوابط عندما احترق غير بلد في العالم الإسلامي؟ لماذا لديكم ضوابط للضحايا والمقتولين وليس لديكم ضوابط للفراعنة والقتلة والجلادين؟

أين كانت هذه الضوابط عندما تورط في العنف شباب متحمس، فاحترقت بلدان بأكملها وصودر مستقبل أجيال في قبضة الطاغية بحجة العنف؟

أين كانت هذه الضوابط من شباب القاعدة المخلصين؟ الذين أربكوا عيش الناس في العالم وشوهوا صورة الإسلام، وصدوا عن سبيله، وفتحوا معركة مع العالم أجمع لأنهم لا يملكون الضوابط الحقيقية بل ربما لأنهم ضحايا هذه الضوابط الشرعية التي تتحدثون عنها!

أيها السادة المتحدثون عن الشرع العالمون بضوابطه الخبيرون ببواطنه أرجوكم أرحموا الشرع وارحموا البلاد والعباد بصمتكم، ففي الحديث: (من كان يؤن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت).

الخميس، 10 فبراير 2011

العزوف عن السياسة في الوطن العربي مظاهر و أسباب

مشاركة في طاولة مستديرة نشرت في مجلة مقاربات

(عودة السياسة إلى المجتمع، وعودة المجتمع إلى السياسة)

1- أتمنى من الحضور كل حسب وجهة نظره تقديم توصيف مختصر للواقع (العربي عموماً والسوري خصوصاً) السياسي الراهن؟

الجواب:

بحسب تصوري لا توجد سياسة في العالم العربي ولا في سورية، السياسة كعلم ولدت منذ وقت مبكر في تاريخ البشر، فقد كتب أرسطو كتابا في علم السياسة، ولكن أرسطو وإن تحدث عن السياسة كعلم إلا أنه نظّر لمهنة من اختصاص نخبة محدودة، كما يوضح ذلك كتاب الأمير لـ مكيافللي، الذي اختص بكتابه رجلا بعينه من هذه الطبقة، والذي نريد قوله أن السياسة كفكرة وجدت منذ وقت مبكر، لكن هذه الفكرة لم توضع في الاستخدام العام، ولم تتحول السياسة إلى ممارسة عامة وعمل شعبي يقوم به الجمهور إلا في الآونة الأخيرة، لقد ولدت السياسة كما نعرفها اليوم مع الحداثة الغربية، وكانت الثورة الفرنسية منارة من مناراتها، وفي الحداثة الغربية اكتشف الناس أنفسهم، واكتشفوا أن النخب التي لها الأمر والحكم لا تفوقهم في شيء، ولا يجري في عروقها دم أزرق، وليس لها صلة بالمتعالي أو نسبا له، لقد اكتشف البشر في الحداثة الغربية العقل الإنساني، ووضعوه موضع الممارسة، وأخذوا يعبرون عن آرائهم فيما يحدث لهم وما يدور حولهم، وهكذا ولدت السياسة ككمارسة جماهيرية وبدأت بالنمو، وبلغت تجليها الكبير في شكلها التنظيمي المعروف بالديمقراطية، والديمقراطية إلى الإن ليست مخلوقا مكتملا، وليست عملا ناجزا، فما زالت النخب - في أعرق البلدان ديمقراطية - تجير مصالح الأمة وإمكاناتها، لخدمة مصالحها الخاصة الضيقة، ولذلك نشهد نوعا من العزوف عن السياسة في الديمقراطيات العريقة كما في بريطانيا، تفضحه نسبة المشاركات المتدنية في معظم الديمقراطيات الغربية،لكن هذه العيوب لا تقلل من قيمة الديمقراطية ولا تهون من شأنها، ولا تجعل الوضع السياسي في العالم الغربي، مدانا أو حتى يمكن مقارنته بالوضع السياسي في العالم العربي، فنحن في العالم العربي لم نعرف السياسة بمفهومها الحديث بعد، لأننا إلى الآن لم نكتشف العقل الإنساني ولم يولد عندنا الإنسان، والعقل العربي أداة غير موضوعة في الخدمة، وهي مقيدة بالمحرمات والممنوعات في الدين والسياسة، ولذلك نلاحظ نوعا من الاعاقة والشلل في إدارة الشأن العام، وتزمن القضايا، وتجدب الحياة العامة، وتسير الأوطان مسيرة تراجعية، ويتغنى الجميع بالتاريخ وأمجاد الماضي، وتزدهر السلفية في صورة عبادة الماضي وتقديسه، في اعتراف صريح بعقم الحاضر والعجز عن الانجاز، واليأس من مقاربة الواقع مقاربة حية مجدية، حتى أن المفكر الجزائري مالك بن نبي كتب ما معناه : أننا منذ خمسين عاما نسير مبتعدين عن الأهداف التي أعلناها عشية الاستقلال من ربقة الاستعمار، فالأمل بالوحدة أصبح أبعد منالا، والاستقلال المنجز لم يتم الحفاظ عليه ولم يكن تطويره ممكنا، ورأيتنا بعد خمسين عاما نستدعي المستعمر الذي طردناه من قبل كما حدث في العراق، والحديث عن الحرية أسفر عن عالم واسع يمتد من المحيط إلى الخليج محكوم بالقوانين الاستثنائية، وتحولت الاشتراكية إلى حكومة أوليغاركية من أشد أنواع الحكومات فسادا في التاريخ، وهذه الصورة تدمغ الوطن العربي بجميع نظم الحكم فيه، دون أن ننكر أمكانية وجود تفاوتات ملمترية بين أقطاره المختلفة، وما زال المواطن العربي محجورا عليه ممارسة السياسة في ما يشبه الحجر القانوني على السفهاء وفاقدي الأهلية القانونية والشرعية، حتى أن عالمنا الثقافي والسياسي، تحكمه مسلمة يؤمن بها جميع المواطنين إيمانهم بالله أو أشد من ذلك، وهي مقولة (نحن لا نتدخل في السياسة)، وكأنها رجس من عمل الشيطان، وتسود هذه المسلمة، حتى في المؤسسات التي تشتغل في السياسة، كالأحزاب والنقابات، حيث أدمنت هذه المؤسسات المسخ على أن تكون مؤسسات استلاب وهي تعمل باتجاه واحد فقط، من أعلى إلى أسفل، حيث يردد الجميع مرعوبين ما يقال لهم، دون أن يملكوا أدنى رغبة أو قدرة على الاجتهاد أو التفكير، أو المراجعة أو حتى الاستفسار، وكأن الكائنات الآدمية تحولت إلى آلات تسجيل فقط، ويمكن قراءة ذلك بوضوح في ملامح المدافعين عن النظم العربية في الفضائيات!

في الواقع إلى الآن نحن لم ندخل في الحداثة، حتى يمكن أن ندخل في السياسة، لأن السياسة كما أشرنا هي بنت الحداثة، ولا بد من الإشارة إلى أن زمن النبي محمد، شهد محاولات لتدشين السياسة كممارسة جماهيرية، رغم وجود النبي والوحي، والحوادث عديدة ومشهورة، وفي تصوري أن هذا مبرر ومشروع لأن القرآن شكل حينها حداثة كبيرة، فهو يلح على العقل ألحاحا منقطع النظير، ويؤكد المسؤلية الإنسانية في صناعة التاريخ، لكن الأحداث التي تلت عهد النبوة وعهد الراشدين، أعادت القيمة للقوة، فتحولت الخلافة الراشدة إلى امبراطورية قومية على يد الأمويين، وأعيدت السياسة كي تصبح من اختصاص النخب أو بحسب مصطلح فقهاء السلطان الذي جيروا القرآن لخدمة السلطان(أولي الأمر)، وتم القفز على الرأي العام وتجاوزه، وأصبحت الممالك تدار كما تدار الآن، على طريقة المزارع الخاصة، حيث هناك بعض الموظفين التكنوقراط، الامتثاليين في المواقع التنفيذية الصغرى، يسهرون على تنفيذ مقتضيات الإرادة (السامية المتعالية) غير القابلة للنقاش والمراجعة، وجموع من الدهماء يخضعون لهذه الإرادة، وليس لهم من حق سوى السمع والطاعة، رغم أنهم يدفعون الأثمان الكارثية للسياسة الناتجة عن هذه الإرادة (السامية).

2- العزوف عن السياسة ظاهرة متفق عليها بين معظم المهتمين بالشأن السياسي السوري، متى بدأت هذه الظاهرة برأيكم؟

الجواب :

أرجو أن تقبلوا تسجيل تحفظي على صيغة هذا السؤال، إن ما يوجد عندنا في الواقع العربي أو في الواقع السوري، ليس هو عزوف عن السياسة، إنما هو انعدام للحالة السياسية، وهذا ما حاولت قوله في إجابتي على السؤال الأول، إن لفظ عزوف عن العمل السياسي يصلح لتوصيف الوضع في بلدان عاشت الحالة السياسية كما هو حال البلدان الأوربية، حيث يشاهد فيها اليوم نوع من العزوف عن المشاركة السياسية، تفصح عنه نسبة المشاركة المتدنية في العملية الانتخابية، كما ألمحت إليه في جوابي عن السؤال الأول، أما عندنا فالوضع محتلف تماما.

أن الحالة السياسية لم تولد في مجتمعاتنا، حتى نقول أن المجتمعات قد عزفت اليوم عن المشاركة السياسة، ربما أفرزت حرب الاستقلال التي صنعتها الجماهير نوعا من الإحساس غير الواعي بدور الجماهير وتأثيرها في الحالة العامة، لكن النخب السياسية والعسكرية التي أدارت البلاد بعد رحيل المستعمر، لم تتصرف بالتركة الاستعمارية حتى لا نقول الموارد الوطنية بطريقة مسؤولة، فحتى المؤسسات التي ورثناها عن المستعمر بدل أن تطور لتخدم الكل الوطني، تم تدميرها لتصبح مؤسسات ميتة كالمستحاثات التاريخية، ليس لها من وظيفة إلا تأمين شرعية منقوصة للمستبد! لقد ورثّنا المستعمر جميع مؤسسات الدولة، ورثنا القضاء، والجامعة، والبرلمان، و مؤسسات العمل السياسي كالأحزاب والتشكيلات النقابية والأندية والاتحادات، لكن لم نتمكن من المحافظة على هذه المؤسسات ناهيك عن تطويرها، ولذلك أنا أقول في السياسة خلاف ما يقوله الدكتور عبد العزيز، السياسة كما أتصور فعل ثقافي بالدرجة الأولى، والحالة السياسية هي وليد شرعي للحالة الثقافية، والإنسان الذي لا يعي إنسانيته، لا يعرف ماله من حقوق ولا ما عليه من واجبات، لن يفلح في تحصيل حقوقه، ولن يتمكن من إنجاز واجباته.

والمواطنة كما أفهمها هي نظام من الواجبات والحقوق، بغير ذلك يضيع معنى المواطنة، ومن ثم يضيع معنى الوطن، كما هو حاصل الآن في واقعنا، لذلك أعيد وأكرر أن الحالة السياسية لم تولد في مجتمعاتنا، ربما بعد خروج المستعمر حدث شيء وهو ما يلمح إليه الأخوة، على اعتبار أنه حالة سياسية! لكنه من وجهة نظري شيء يشبه تماما ما يحدث في أحد الصفوف المدرسية، حيث يحافظ الصف على انضباطه حتى بعد مغادرة المعلم الصف، ولكن ليس لوقت طويل، هذا لا أستطيع أن أسلم أنه حالة سياسية واعية، ولو كانت الحياة السياسية قد بدأت عندنا لما أمكن لها أن تنطفيء بهذه الطريقة، ليس لدي دراسة دقيقة للواقع السياسي، لسوريا قبل الحكم العسكري، الذي دشنه الجنرالات، لكن من معلوماتي القليلة أذكر أن الحزبين الأكثر شعبية في تلك الفترة، والذين تداولا السلطة بعد الاستقلال (حزب الشعب والحزب الوطني) كانا تجمعين إقليميين إلى حد بعيد، (واحد للحلبية وآخر للشوام)، والبعثيون القوميون لم يبلغوا الأربعة آلاف حتى الانقلاب العسكري في الثامن من آذار، ربما تمكن عبد الناصر بمهاراته الخطابية، ومواقفه الشعبوية التي لعبت بعواطف الجماهير الملتهبة بتأثير ملابسات الاستقلال، والاستشارات التي كان يقدمها ساحر الملك محمد حسنين هيكل من اكتساب شعبية كبيرة بين الجماهير، لكنه بكل أسف ومراراة وظف ذلك في إلغاء السياسة في مصر وبعد ذلك في سوريا، وتدشين حكم الطغاة والمستبدين في فترة ما بعد الاستقلال، فتحول ممثل الشعب في البرلمان الذي أصبح مجلس شعب إلى شاهد زور لا يملك إلا حق الموافقة، وأصبحت هذه المؤسسة كما هي اليوم، مخلوق طفيلي ليس له وظيفة أكثر من ديكور شكلي لا يتدخل في الحياة العامة من قريب أو بعيد إلا إذا أوحى إليه الطاغية بذلك كما شاهدنا في البرلمان العراقي بعد احتلال الكويت، وتم السطو على الجامعة والجامع ليتحولا إلى شاهدي زور بلا شكر ولا أجر للاستبداد، فيما سمي يومها زورا باصلاح التعليم، وكذلك حدث في مؤسسة القضاء وسلطة القضاء، فقد شهدت مصر مثلما شهدت باقي الدولة العربية تحطيم هذا الإرث الاستعماري فتم في مصر العبث بمؤسسة القضاء، فيا يسميه الأخوة في مصر بمذبحة القضاء، هذه المذبحة التي حدثت مثلها مذابح للقضاء في كل بلد ورث نظاما قضائيا من عهد الاستعمار،

ولعلكم تابعتم ما يحدث الآن في باكستان من صراع بين الطاغية والقاضي، بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة القضائية، بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، بين القوة والقانون، بين شودري وبين مشرّف، إن المؤسسة العريقة التي تدعم شودري - هي في الواقع - وريثة التقليد الانجلو ساكسوني العريق في القضاء، والدكتاتور الذي هو منتج الثقافة المحلية، يحاول أن يتخلص من آخر بقايا الإرث الاستعماري، ليتحول إلى حاكم بأمر الله، وهذا المعركة حدثت في كل البلاد العربية وحسمت لصالح الطاغية، فقد ابتلعت السلطة التنفيذية كل السلطات أو كما يقولون أستولت السلطة على الدولة والمجتمع! ماذا بقي من الجمهوريات في العالم العربي، لم يبق منها إلا الاسم، ولم يعد للجمهور مكان في الجمهوريات، في الحقيقة لا توجد جمهوريات في العالم العربي، الذي يوجد في العالم العربي، هو نوع من حكم المماليك التاريخي يتجدد الآن، أنا أسميه حكم المماليك الجدد، في الواقع النموذج الملكي العربي المطلق السلطات هو امتداد طبيعي لنموذج الخليفة المطلق السلطات القديم، أما الحاكم العسكري الجديد الذي يستولي على الحكم بقوة الجيش ويحافظ عليه بقوة العسكر والمخابرات فهو النموذج الجديد المعاصر من حكم المماليك التاريخي المعروف.

فنحن في العالم العربي لم نتمكن من صناعة عالم ثقافي ينتج حالة سياسية، تفرز بدورها سلطة تؤمن بالسياسة أو تفهم السياسة أو تعرف التنافس السياسي، وكل القوانين مثلاً حتى الدستور في سورية مثلا، الدستور الذي وضعه الجنرالات الانقلابيون أنفسهم، لم يوضع موضع التطبيق وما زال معلقا لصالح الأحكام العرفية حتى تاريخه، ورغم أن كل من يقرأ هذا الدستور يشعر أن دستور الجمهورية نكوص عن دستور حزب البعث، الذي وضعه المثقفون قبل أن يتورطو بالتحالف مع قوة الجيش التي كانوا أول ضحاياها، فالدستور الذي وضعه المثقفون البعثيون، له آفاق إنسانية، وفكرية، وسياسية واجتماعية أرحب كثيرا من دستور الجمهورية، و يمكن أن نستشف بيسر أن دستور الجمهورية صُمم لصناعة الاستبداد، فقد تم تحجيم جميع السلطات لمصلحة رأس السلطة التنفيذية، الذي أعطي صلاحيات لا مثيل لها، وحتى هذا الدستور الذي فصل على القياس ورغم قابليته للقص واللصق والحذف والاضافة كلما دعت حاجة النخب، ورغم ذلك لم يعط الفرصة كي يوضع في التنفيذ، لقد عجزت النخبة العسكرية التي فصلته ومواده بما يلائم وضعها ويلبي احتياجاتها، لم تتمكن من وضعه في الممارسة العملية، وفيما يتعلق بمنظمات المجتمع المدني والأحزاب، أعتقد أنه لا توجد فعلاً مثل هذه المؤسسات عندنا، وإن وجدت أجسامها، حتى أعرق الأحزاب وأكثرها (تقدمية) في لحظة من اللحظات، الحزب الشيوعي السوري....................

ناصر الغزالي مقاطعا:

أنا قصدي دكتور محمد ليس إذا موجود أو غير موجود.

كيف تلعب هذه الأحزاب إن وجدت أو منظمات المجتمع المدني والأهلي في تفعيل العمل السياسي أو إقناع المواطن بعودته للسياسة؟

دكتور محمد:

أنا بتصوري هذا متوقف على وعي المؤسسات والقائمين عليها لمعنى المواطنة ودورهم كمواطنين، وموقعهم في الوطن، هذا الفهم وحده هو القادر على أن يحدد الآفاق التي يتطلعون إليها، ويمّكنهم من القيام بواجباتهم، وممارسة أدوارهم، يجب أن يفهم المواطن أن معنى المواطنة يعطيه حقوقا أصيلة، فوجوده في بلده، ليس نوعا من اللجوء، و ما يحصل عليه من حقوق ليس منحة ولا مكرمة، يجب أن يفهم الجميع أن الدستور رغم تحفظنا على بعض مواده، يعطي الجميع حقوقا متساوية، من أبسط إنسان إلى رئيس الجمهورية، فمعنى الجمهورية: نظام الحكم الذي يقدر الجماهير ويقدس مصالحهم، الجمهورية هي دولة الجمهور الحر، وليست دولة النخب والأمن والمواطن المقموع المرعوب الذي يمشي الحيط الحيط ويقول يا ربي الستر، يجب أن نملأ هذه الكلمة الخاوية بالمعنى، وذلك عبر الممارسة، وليس مجرد الحديث، يجب أن يفهم المواطن العربي أن السلطة ليست مصدر الشرعية، بل هي تحتاج منه أن يمنحها الشرعية، ولذلك عليه أن يكون له موقف غير النفاق والاستخذاء، في كل مرة يطلب منه رأي، وهذا يحتاج لوعي دستوري حقوقي مختلف غير متوفر في واقعنا الحالي، ولذلك أقول: علينا أن ننتج حالة ثقافية تنتج الحالة السياسية التي نرغب فيها، قرأت في الجزيرة نت أن منظمات حقوق الإنسان في مصر رغم الأجواء الخانقة التي تعمل فيها تمكنت من أن تجعل ثقافة حقوق الإنسان، أو مصطلح حقوق الإنسان، أكثر المصطلحات شعبية في مصر، وهي خطوة باتجاه انجاز ثقافة يمكن أن تنتج حالة سياسية، وهذا أفق مختلف عمن يعيش عهد مكرمات السلطان وعطاياه، وإن كنت في جميع الأحوال أحب أن نعمل على إنتاج ثقافة تقدس وتعظم واجبات الإنسان، أكثر مما تقدس حقوقه، لأننا في لحظة بناء ، ولحظات البناء تحتاج للبذل التضحية والعطاء، وليس للأستحواذ والمحاصصة كما حدث في بعض مؤسسات المعارضة، وكما حدث في فلسطين والعراق، حيث يضيع الوطن تحت وطأة الامتيازات الفصائلية والشخصية!

هذا تعقيب

الدكتور محمد:

أرجو أن تقبلوا تحفظي الشديد على أننا مارسنا السياسة أو عشنا حالة سياسية، أعيد وأكرر وأنا متمسك بهذا الموقف، نحن لم نمارسن السياسة بل نحن لم نذق طعم السياسة ولم نرح رائحتها، البعثيون أكثر من مارس (السياسة) في المنطقة! وكيف مارسوها؟ وصلوا إلى القصر الجمهوري بالدبابة، وتحدوا على لسان وزير الدفاع السابق أن يخرجهم أحد من القصر بالدبابة! هذه ليست سياسة، وجميع الفرقاء كانت لهم نفس الطموحات ونفس الخطط، لكن ميزة البعثيين أنهم سبقوا فما لحقهم أحد، هذه ليست سياسة إطلاقاً، وليست سياسة أن نؤسس أحزابا لها أذرع عسكرية، ربما لم تكن حالة الجميع، ولكنها حالة الغالبية، ومن لم يشكل جناح عسكري فلعجزه ونقص موارده، وليس لوضوح في الرؤية والقدرة النظرية والعملية على الفصل بين العنف والسياسة، كل من يؤمن أن الحكم يمكن صناعته بالقوة لم يشم رائحة السياسة ولن يشمها أيضا، وعندما تصل بالعسكر إلى الحكم، لن تستطيع الاحتفاظ بالحكم من غير العسكر، وعندها ستصبح أسيرهم وأسير قوتهم، فالحراب كما يقول توينبي (لا تصلح أن نجلس عليها)، وهذه الحالة ليست سياسة بل إلغاء للسياسة وتكريس لغيابها لمصلحة العنف، مصطلح سياسة في اللغة مصطلح فني أقرب إلى الجهد العقلي منه إلى الجهد العضلي، لكننا إلى الآن لم نتمكن من صناعة مناخ عقلي يسمح لنا بالمراجعة وإعادة النظر، والتطلع إلى آفاق جديدة في العمل الوطني، ما زلنا مسكونين بآلام الماضي وأثمان العنف الذي لم تكن السلطة المتورط الوحيد فيها، وإن تكن قد مارست أسوأه، وأستغلت الأوضاع لتبطش بالجميع، لكن علينا أن نعترف أننا لم نتمكن من صناعة مناخ نظيف ينتج السياسة ويقصي العنف والعسكر.

لقد تنفست السلطة الصعداء لما حولنا ساحة العمل السياسي إلى ساحة حرب، فهي التي تمتلك السلاح الشرعي الحيد، وتمتلك الجيش المدرب والمؤسسات والموارد، وجميع ذلك وضع في خدمة النظم، بحجة الدفاع عن الوطن، وتركت حدود الوطن وأجواءه هملا مشاعا، ونحن جميعا شاركنا في صناعة هذه الحالة غير الوطنية عندما قدمنا للنظم، كل الحجج والمبررات، في غير مكان من وطننا العربي الكبير.

3- إلى ماذا يٌعزى هذا العزوف بنظركم؟

أ- على مستوى السلطة ومؤسساتها كقوة حاكمة، والدستور والقوانين الناظمة للمشاركة السياسية.

ب – الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني و الأهلي.

أولا

أحب أن أذكر بتحفظي على مصطلح عزوف، وأنه توصيف غير دقيق لأنعدام الحياة السياسية في مجتمعات لم تولد فيها السياسة، ولم تبدأ فيها حالة سياسية، حتى نتحدث عن عزوف عن السياسة فيها.

أ – وإجابة على سؤالكم أقول : إن انعدام السياسة على مستوى السلطة ومؤسساتها يرجع إلى طبيعة السلطة، فهي في العمق سلطة غير سياسية كما أسلفنا، وهي لا تستمد شرعيتها من توافقات سياسية معينة قابلة للزحزحة والتفاوض والتغيير، بل من احتكارها المطلق للقوة، وهذا الموضوع الذي لا يتحدث عنه أحد ممارس ومعاش في العمق وهو يسكننا جميعا، السلطة في الحكم فقط كاستحقاق لأستحواذها على القوة التي لا قبل لأحد في الداخل بها، فهي لا تعيش حالة سياسة بل حالة سيطرة محروسة بالقوة، ولا شرعية لها إلا الشرعية التي تحدث عنها الليث بن يعقوب الصفار في التاريخ[1]، ولذلك تسير الأمور في كل البلدان العربية باتجاه وحيد، من أعلى إلى أسفل، وفي كل قطر شمس تمد الجميع بالخير والنور والدفء والعطاء والبركة، كالآلهه لا يسأل عما يفعل، لا مبدل لكلماته، ولا راد لحكمه، ولا معقب لأمره، وليس له كفوا أحد، ولا يمكن أن يذكر اسمه إلا ممدوحا منزها مبجلا، وكل من يدخل حقل (السياسة) يدخلها بالمديح والثناء والتقرب باسمه وذكره زلفى، ويستمر إن استمر بالامتثال والولاء المطلق، وهذا الموضوع ترسخه كل المؤسسات أو الاجسام المؤسسية بلغة أدق، بما فيها الجامع والجامعة، فجميعها تتعاضد لاثبات شرعية تستعصي على الشرعنة، وهذه البنية مغلقة من الناحية العملية على أقلية قليلة تعد على رؤوس الأصابع، القاسم المشترك بينها القرابة القريبة، وهي مغلقة من الناحية النظرية ببعض الاعتبارات القانونية كالمادة الثامنة في الدستور السوري، وبعض القوانين والاعراف القبلية في الممالك والإمارات، فالنخبة التي تحتكر القوة، تحتكر البلد وسياسة البلد الداخلية والخارجية، وتتصرف بحرية واعتباط مطلقين، ولذلك تنتكس الأوضاع في كل البلدان العربية بمرور الوقت، وكأننا نسير للوراء كما قدمنا، والقوانين التي تنظم الحياة السياسية أما غير موجودة كما في سوريا، حيث يعيش الجميع بسياسة غير النظر، ويعمل الجميع تحت سقف الرقيب ورهن رضاه، أو في غفلة عن عينيه، أو يتم تفصيل القوانين وتثقيلها بالشروط التي تبقي على تمثيلية سياسية تحافظ على الوضع القائم، وتضمن عدم ولادة منافس سياسي حقيقي للنظام كما في مصر وأكثر من بلد عربي.

ب – فيما يتعلق بالأحزاب والمنظمات، فالاحزاب (الشرعية) تعيش على هامش الحياة، وهي في معظم البلدان التي فيها نوع من الحياة السياسية، تعيش في عزلة عن الشارع، للحفاظ على الشرعية التي يمنحها النظام كما في أحزاب الجبهة في وسوريا وبعض المستحاثات الحزبية في مصر، وكل حزب يمكن أن يشكل تحديا حقيقيا يمكن أن يجري له ما جرى لحزب العمل في مصر، وتمنع كل القوى الحية الفاعلة من المشاركة في الحياة السياسية، بمختلف الذرائع، كما في حظر الإخوان المسلمين في مصر، أو القانون تسع وأربعين لعام الثمانين في سورية، وفيما يتعلق بمنظمات المجتمع المدني فهي منظمات وليدة لم يشتد عودها، وهي في الغالب تعمل في ظل انعدام الشرعية القانوية، فمعظمها إن لم يكن جميعها لم تتمكن من الحصول على الغطاء القانوني من خلال الترخيص كما في سوريا، وحتى المرخصة والتي اكتسبت نوعا من الشرعية ليس من الصعب تجريمها عندما يشعر النظام بأنها بدأت تشوش عليه أوتسسب له نوعا من الحرج كما حدث مع رئيس مركز ابن خلدون في مصر، ذلك أنه في ظل الفوضى القانونية وتداخل السلطات يدخل نشطاء حقوق الإنسان المعركة مثل الانتحاريين، مجردين من أي دعم رسمي أو شعبي فالجمهور في العالم العربي مثل جمهور الحسين في كربلاء بحسب ماعبر عنه الفرزدق حين قال للحسين (ودعك الله من شهيد، قلوب الناس معك وسيوفهم عليك) وحتى أكبر الحلفاء يمكن أن يقدمهم كقرابين على مذبح بعض المكاسب التي يمكن أن يحققها كما حدث لمدير المركز الأوربي لحقوق الإنسان في سوريا.

4 – ماهو الدور الذي يلعبه الاقتصاد في ظاهرة العزوف عن السياسة أو المشاركة السياسية؟

الدكتور محمد:

لاشك أن الاقتصاد له دور حيوي في حياة البشر، لكن ربما ليس للدرجة التي ذهب إليها البعض، عندما أعدموا أبعاد الإنسان الأخرى لصالح البعد الاقتصادي، ليصبح الإنسان مخلوقا وحيد البعد أو حيوان اقتصادي، لكن لا شك أن للاقتصاد دور مهم، لو عملنا مسح للناشطين في الحقل السياسي لن نجد أنهم من الطبقات المشبعة أو المترفة (الطبقات العليا)، كما أنهم لن يكونوا من الفقراء المعدمين في الغالب وإن وجد بينهم الفقراء، و سيكونون غالباً من الطبقات الوسطى، إذ يبدو أن إشباع الإنسان إلى حدود كبيرة يفسده، وربما يعرقل تطوره الإنساني، ولا يعود يفكر في آفاق أعلى من عالم الأشياء، وكأنه يستغرق أو يغرق فيها، كما هو حال المجتمعات الاستهلاكية اليوم، حيث يسيطر هاجس الاستحواذ والتملك والجديد على الناس، لكن إفقار الإنسان بحيث يستهلك جهده اليومي في تأمين حاجاته الأساسية في المأكل والمشرب والملبس يشله ويعيق نموه الإنساني أيضا، والحالة التي ترتبط بدور إيجابي للاقتصاد في الحياة، هي حالة إنسان الطبقة الوسطى، الذي تحرر في سعيه اليومي من سيطرة الحاجات الأساسية، ولم يبلغ عالم الأِشياء عنده درجة الاغراق التي تشله وتقعده عن السعي، والذي يحدوه الأمل بأن عالمه غير مستنفذ بل هو قابل للتنمية والتطوير.

وفي الواقع فقد كانت الحالة الاقتصادية التي ارتبطت بتحرر الفرد من سعيه اليومي لتأمين احتياجاته الأساسية، منطلقا لدخول الإنسان عالمه الحق، عالم الآمال والأشواق، عالم النظر في السماء والتأمل في الأرض، فقد كان اكتشاف الزراعة وتمكن الإنسان من تأمين مصدر مستقر لهذه الحاجات، بداية دخول الإنسان عهد الإنسان، عهد المجتمع والحضارة.

إن العمل العام يحتاج الوقت والجهد، ويكون الوقت والجهد المطلوب أكبر في المجتمعات الناشئة، لكن هذه الجهود مقيدة بمخاطر العمل العام وضريبته، وهذا ربما يشكل قيدا يعيق الكثيرين عن الانخراط في الحياة العامة، فقد أرسلت إلي إحدى الأخوات بريدا ألكترونيا أشعر أنه يمثل إجابة عميقة الغور على السؤال رغم بساطته المضحكة:

كان هناك خطيب مشهور في مصر(الشيخ عبد الحميد كشك)، وكان ممن يتدخلون في الشأن العام، ويقوم بما يعتقد أنه رسالة المنبر الحقيقية، وكان مصدر صداع دائم للسلطة، فقررت السلطة عزله، فغضب الناس لذلك وقرروا التظاهر للاعراب عن رفضهم للقرار، وفعلا فقد حدثت تظاهرة كبيرة، وتفاجأ المتظاهرون بقدوم سيارات ضخمة تبيع البيض بسعر رمزي جدا، فقال كثير من المواطنين إن هذا البيض رخيص جداً، وهذا لا يمكن أن نحصل عليه كل يوم، غداً يمكن أن نتظاهر فترك قسم كبير من الناس المظاهرة، ليحصلوا على صحن بيض بسعر (لقطة) وهكذا كان، وبعد لحظات حضرت سيارات الأمن المركزي، فانفض الذين اشتروا بيضا حفاظا على صحون البيض أن تتكسر في المواجهات، وذهب سواد المتظاهرين وهكذا انفضت المظاهرة بأهون السبل، فهذه الصورة الكاريكاتورية موجودة بعمق في كل من يفكر في المشاركة في العمل العام في عالمنا. أنا في الواقع كلما قمت وقعدت ورحت وأتيت، كلما أُستدعيت من قبل الأجهزة أو شاركت في نشاط عام، أو عبرت عن رفضى واحتجاجي على واقع معين، لا تغيب عن ذهني صحون البيض خاصتي، واحتمال أن تتعرض للتكسير، فليس أكثر هشاشة من الإنسان ومصالحه، أمام سلطة تملك كل القوة ومطلق الحرية في استخدامها من غير ضوابط. أعتقد أن الجميع لهم مثل هذا الهاجس وأمامهم مثل هذا التحدي وإن اختلفت النسب.

5 – ماهو دور حرية الرأي والتعبير في ظاهرة العزوف عن السياسة أو المشاركة السياسية؟

إن السياسة كما أسلفنا هي وليدة الثقافة، ومن ثم فإن إنجاز حالة سياسية ما، يقتضي منا إنجاز وضع ثقافي يمكن فيه ولادة مناخ يسمح بالتفكير الحر، الذي ينتج الآراء التي يمكن أن توضع في التداول، وإذا كان المناخ الثقافي السائد إلى الآن في المنطقة العربية أسير مقولتي القوة والسلف، فكيف يمكن أن يولد الرأي؟ وما لم يولد الرأي فلن نعرف للحرية معنى، ولذلك قلت وأكرر الآن أن العقل السياسي في المنطقة العربية لم يولد حتى اليوم، وأنه لم يوضع في الخدمة حتى الآن، ما زالت السياسة محكومة بالقوة، وما زال العقل بعيدا عنها، وحيث لا عقل فلا مجال للرأي ولا معنى لحرية الرأي، وما زال العالم الثقافي أسير القراءة القروسطية للنص، محكوما بنموذج السلف، حيث كل الأشياء ذات القيمة قد قيلت وكل ما يمكن أن يقال هو لغو أو في أحسن الأحوال فضول من القول، إن لم تضر فهي لن تنفع شيئا، فما ترك الأول للآخر شيئا، وفي تصوري فإن بحث مشكلة السياسة يتطلب بحث مشكلة الثقافة، وهذا يقتضي أن نضع المثقف في دائرة الاتهام بدل أن نضع السياسي، فالسياسي حفيد المثقف، وإخفاق السياسة في العالم العربي هو وثيقة إدانة للجامع والجامعة، كما يقول الأستاذ جودت سعيد، إن ولادة مثقف حقيقي يأخذ المبادرة، ينحاز للوطن والإنسان، كفيل بكسر الحلقة المعيبة، وعندما نتمكن من صناعة هذا النموذج نكون قد وضعنا حجر الزاوية في صناعة السياسة في المجتمعات العربية، فولادة الحالة السياسية رهن بولادة الرأي الذي يصنع حريته.

6 – ماهو دور الدين، الثقافة، العادات والتقاليد في ظاهرة العزوف عن السياسة؟

كنا قد أجبنا عن طرف من هذا السؤال، في سياق الإجابة عن الأسئلة السابقة، عندما تحدثنا عن علاقة الثقافة بالسياسة، وأضيف أن الدين بالأساس دعوة تحرير وسبيل حرية، وفي اعتقادي كمسلم أن المبادئ القرآنية الكبرى ما زالت راهنة، لكن الذي يحدث في القراءة الشائعة، أن المبادئ الكبرى يتم تجاوزها لصالح أحكام تاريخية صغيرة مهما عظموها، مقارنة بالهدف القرآني الأساسي الذي هو إخراج من شاء من العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، وتحريرهم من التراث، بنزع الآصار والأغلال التي تنسجها البيئة الثقافية التاريخية (المخلدة) حول عقول البشر، لكن وبكل أسف ومرارة فإن الدين بخضوعه للعقل الفقهي، وابتعاده عن روح القرآن يتحول إلى سلطة لا تقبل إلا بالخضوع الكامل، ويتحول التدين إلى حالة من الاستلاب التي لا تليق بالإنسان المكرم، وفي تصوري فإن هذا تدين ضد الدين إن صح التعبير، فهو ينزع آدمية البشرعندما يسد الطريق أمام العقل الإنساني أو يستبعده أو يشكك في مصداقيته، كما أنه يخلق وعيا زائفا عندما يصرف اهتمامات الناس عن إدارة شؤونهم الحياتية اليومية، ليسلط طاقاتهم على تحصيل حياة افتراضية منقطعة عن الواقع المعاش، رغم صراحة القرآن في ارتباطهما، بحيث أن الحياة الدنيا[2] هي مقدمة الأخرى(من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا).

و رغم كل ما قدمناه، لا أعتقد أن الدين عموما والإسلام خصوصا مما يمكن تجاوزه أو تجاهله في بحث المشكلة الإنسانية، أي مشكلة السلطة في هذه المنطقة أو في أي منطقة أخرى من العالم، ولذلك أعتقد أن الاصلاح السياسي في العالم العربي رهن بنوع من الاصلاح الديني، إصلاح ديني لا يقوم على إقصاء الدين وعزله كما في التجربة الغربية التي ثبت فشلها بما لا مجال للشك فيه، حيث بدأ الدين يستعيد حيويته فيها، لكن دون أن تمسه أضواء عصر الأنوار، وهذا يهدد بتقويض كل مكتسبات الانسان المعاصر، وكل منجزات عصر الأنوار، وقد ظهرت هذه الروح في الغزو الامبراطوري الأمريكي الذي ينتهك كل مقدسات عصر الأنوار لصالح فكر ديني متخلف، يدعمه اتجاه فكري تعبر عنه بعض التصريحات التي جاءت على لسان بعض القادة السياسيين والدنيين كما في حديث البابا في جامعة روزنبرغ، أو في حديثه التالي عن الكنيسة الوحيدة الناجية التي هي كنيسته، والتي تثبت أن هذه العقول لم تمسسها فتوح عصر الأنوار.

7 – إن المدخل الرئيسي للحكم الرشيد لأي دولة مرهون بالإرادة السياسية، كيف ومن الجهة التي تملك هذه الإرادة؟

الدكتور محمد:

الإرادة بحسب ما افهم هي الرغبة، ولما نتحدث عن الإرادة السياسية، فنحن نتحدث عن الرغبة السياسية، ولن تتشكل الرغبة أو الإرادة من غير خبرة أو معرفة، فالمعرفة هي التي تصنع الإرادة كما شرح الأستاذ جودت في كتابه العمل قدرة وإرادة، وهذه الخبرة متوفرة الآن بوجود النموذج الشاهد الذي يصلح كوثيقة إدانة لواقعنا المريض، حيث في معظم دول العالم يتم تداول السلطة من غير دماء وآلام، وتكون السياسة وأداتها وهي الحكومة في خدمة المجتمع.

لكن من هي الجهة التي يجب ان يقع عليها عبء المبادرة؟ إن القسمة الضيزى للسلطة والثروة لا يتضرر منها من يمسكون بالسلطة - على الأقل في المدى القريب – وإن كانت على المدى البعيد تنطوي على نتائج كارثية، ربما لا يكون الوضع العراقي أكثر السيناريوهات سوءا، وقد تكون الإعاقة الدائمة والشلل المستمر وما يمكن أن تنشأ عنه من أزمات كما هو في وضعنا الحالي مرشحة للاستمرار، ومن ثم التفاقم والانفتاح على سيناريوهات شديدة الخطورة، إن استقراء الواقع وتطورات الأحداث والازمات المقيمة تدل على أن هذا الوضع غير قابل للحياة، ولذلك فإن التغيير ليس خيارا، بل هو قدر المنطقة، وقدر الشعوب والحكومات فيها، ويجب أن يبادر من تتوفر لديه الرؤية المؤسسة للإرادة، وهو المطالب بالخطوة الأولى، لأن المستكبرين ليسوا أصحاب مصلحة مباشرة، كما أنهم أبعد عن رؤية الواقع وقراءته واستقرائه، من يملك الإحساس بضرورة التغيير يجب أن يضع هذه الرغبة في مكان الفعل، وبحسب تصوري للسياسة باعتبارها فعل ثقافي أولاً ، أرى أن المثقف هو المسئول رقم واحد، وهو مطالب أن يضع تصوراته ومايؤمن به محل الفعل، ولهذا أعتقد أن قول الحق بحسب مصطلحاتنا أو ممارسة النقد كما ذكر الدكتور عارف ممارسة أساسية وضرورية في أي عمل تغييري، ونحن كثيرا ما نتحدث عن حق الإنسان في الكلام أو في التعبير، وأنا أقول إن المعادلة هنا مقلوبة، علينا أن نحي ثقافة الواجب، واجب الإنسان في قول الحق، و ليس حقه في القول، إن ممارسة واجب قول الحق هي تدشين عملي لحرية القول غير قابل للانتزاع، فما تمنحه فرمانات السلطان يمكن أن تلغيه، أما ما تؤسسه الممارسة الشعبية العلنية فلا يمكن لأحد أن يسلبه، يجب أن نمارس قول الحق وأن نوطن أنفسنا على تحمل تبعات قول الحق، لقد خطا الأخوة في مصر خطوة للأمام فلم يعد السلطان ذاتا مقدسة متعالية غير قابلة للنقد، بل أضحى ذاتا بشرية فانية يمكن نقد ممارساتها الخاطئة،

إن هذا السبيل ليس بلا أكلاف، لكن في جميع الأحوال لن تكون الأثمان كارثية، ونحن نعرف أن التغيير ليس بلا ثمن إطلاقا!

هذا تعقيب

الدكتور محمد: لي عدة ملاحظات :

الملاحظة الأولى : أشعر من خلال المداخلات التي قدمت، أنه كان من الضروري أن نحدد بعض المصطلحات في بداية اللقاء، فأنا أشعر أحياناً أن مفهوم الفعل السياسي غير واضح للجميع على نفس المستوى، أقصد أن المفهوم ليس واحدا في أذهان المشاركين، وهذا الإشكال توضح لي من خلال تعقيب الدكتور عبد العزيز، على تعليقي على العمل السياسي في المنطقة، وخاصة لما قلت إن الأحزاب السياسية التي تنشئ أجنحة عسكرية لم تعرف السياسة حتى تمارسها، في الواقع نحن لم نصنع مناخا صالحا للعمل السياسي، لا يمكن أن تُصنع السياسية وأن ُتمارس في بلد لايرى فيه أحدا إمكانية التغيير بغير القوة، إن إيماننا بالقوة كحل لمشكلة السلطة يجعل السياسة خارج وعينا، والحلول السياسية وراء ظهورنا، قد تقولون أن السلطات في كل بلد عربي هي سيدة الموقف ومالكة القوة، وأقول إن إيماننا بالقوة هو الذي يجعل القوة ومن يملكها سيدا للموقف، علينا صناعة جو إنساني، القيمة فيه للرأي، ويجب أن نميز بين الرأي والشتيمة، وعلينا أن ننشئ جيلا يعرف الرأي ويحترمه ويقدسه وهو مستعد للتضحية في سبيله، إن انسداد الأوضاع في العالم العربي، ليس سببه قوة النظم الحاكمة، إنما سببه تبلد المثقف الذي ما زال إلى الآن أسير فكرة القوة، وما لم نتخّلَ نهائيا عن فكرة القوة كحل لمشكلة السلطة فلن تخطر لنا الحلول السياسية الممكنة أو المحتملة، ولن نستطيع التحرك باتجاهها، ومن ثم زحزحة الواقع الهش المتآكل الذي فضحته حرب العراق، حيث أظهرت بلدا مثقبا متهاويا يكفي النفخ عليه ليزيله، لكن حتى عصا سليمان لم يكن لها أن تسقط لولا دابة الأرض، التي لولاها للبثت الجن في العذاب المهين كما هو إنسان العالم العربي، علينا أن نعيد تأسيس الحياة على أساس احترام الإنسان من خلال احترام عقله، وهذا لا يحدث حتى في الجامعات، أي أن مشكلة (الامامة الكبرى) - بحسب مصطلحات التراث- في عالمنا هي صورة مضخمة عن السلطات الصغيرة في مجتمعنا، وإذا لم نتمكن من ذلك فلا نلومن ألا أنفسنا، لا يمكن ممارسة الجراحة في مكب الأوساخ كما يقول الاستاذ جودت.

وفي الأجواء الملتبسة والمختلطة لن يسلم أحد، ولذلك في جائحة فيروس الأيبولا في زائير، كان الضحية الأولى مريض مصاب بالفيروس، أما الضحية الثانية فكان الطبيب الذي عالجه، فإذا كان هناك حزب صغير في مجتمع ما، وهذا الحزب تم البطش به رغم أنه لم يمارس العنف، فهذا شئ طبيعي، لأننا - كما قدمت - لايمكننا ممارسة الجراحة في أي مكان، نحن مسؤولون عن صناعة مكان يناسب إجراء الجراحة، مثلما نحن مسؤولون عن صناعة مناخ يمكن فيه ممارسة السياسة.

لما يقال نحن وصلنا للحكم بالدبابة، ومن يملك الدبابة فلينازعنا فهل هذه سياسة؟ وهل هذا مناخ لممارسة العمل السياسي؟ نحن لا نتحدث عن سياسة بل عن حرب، والحرب يخسر فيها الجميع، وإن كان البقاء فيها يجير لمصلحة الأقوياء فعلا ويحصل الجميع على نصيب متفاوت من الخراب، ومثلما قالت الدكتورة مي هذا فعل سلطة، وليس ممارسة سياسة، لذلك كان من المهم والضروري أن نعرف ماذا نقصد فعلاً بالسياسة، وبالتالي يتضح أكثر معنى الإرادة السياسية.

الملاحضة الثانية: موضوع السؤال الذي سألته للدكتورة مي ، والذي يقول : ما هو تصوركم لما يمكن أن يحدث لو كان لدى السلطات نوايا إصلاحية؟ وأنا أعتقد أن هذا الموضوع لا يجوز تخيله، لأننا عشناه حقيقة على الأقل في سوريا، من خلال ما سمي بربيع دمشق، الذي كان الدكتور عارف دليلة أحد رموزه وأحد ضحاياه في نفس الوقت، و هو جواب واقعي لما يمكن أن يحدث في حال توفرت شبه إرادة عند النخب الحاكمة، وفيما إذا لمس الناس توجها للاصلاح عند السلطة، سيكون الحال مثلما حدث في ربيع دمشق، الذي تلا خطاب القسم الشهير، وما أشاده الناس عليه من أحلام.

الملاحظة الثالثة: حول موضوع الحق والقانون الذي أشار إليه دكتور عبد العزيز، في الوقع مشكلة القانون لا تكمن في شدته أو لينه، إنما تكمن في هل يطال الجميع أم أنه ممكن التجاوز وهو يطبق بطريقة انتقائية؟ فوجود قانون يطبق على الجميع ليس مشكلة، حتى ولو كان شديدا، لكن عندما يكون هناك أناس فوق القانون وهناك أناس يطالهم القانون، هنا تحدث المشكلة، وهذا مؤذن بخراب العمران كما نعيشه في العديد من الدول العربية.

8 – ماهو الحل برأيكم لتجاوز هذا الوضع وإقناع المواطن السوري بضرورة المساهمة في الحياة السياسية؟

9 – إن معظم المواطنين السوريين فاقدي الثقة بالمؤسسات الحالية الحاكمة والمعارضة، بل وفقدان الثقة في النخب الفكرية والثقافية والسياسية المؤطرة للحياة السياسية. في رأيكم كيف نستطيع إعادة هذه الثقة للمواطن السوري؟.

10 - لماذا فشلت الأحزاب السياسية كافة في السلطة والمعارضة على ثني المواطن السوري من العزوف عن السياسة

الدكتور محمد:

إن الأسئلة الثلاث الأخيرة تبدو بالنسبة لي متداخلة، أو متقاربة أو متراكبة، فكيف يمكن أن نقنع المواطن العربي بالعمل السياسي،؟ إذا كانت النخب السياسية في السلطة والمعارضة لا تمارس السياسة؟ وكيف يمكن ممارسة السياسة في مناخ ثقافي لا يؤمن بالسياسة؟ وكيف نبني ثقة المواطن العربي بما هو مفقود إذ صح ما قدمنا من انعدام للسياسة؟ وصح ما قدما من ان النخب نفسها لاتملك مثل هذه الثقة؟

أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال تتضمن تلخيصا للطاولة بكل محاورها، وهي في نفس الوقت تساعدني على لملمة ما تفرق في إجاباتي على الأسئلة المختلفة, وبحسب ما قدمت في بحث الموضوع في إجاباتي، يمكنني القول إن الواقع العربي واقع قاحل مجدب إذا تعلق الأمر بالسياسة، وهذا الفقر في عالم السياسة الذي يصل حد الاملاق، يرجع بحسب تحليلي إلى فقر العالم الثقافي ونقص أدواته، حيث ليس لنا قدرة في العالم الثقافي على فصل معركة الفكر عن معركة الجسد، فنحن ننتمي إلى ثقافة ما زالت إلى الآن، لا تعترف بالمختلف، فنحن دينيا نقتل المرتد، وقوميا نخون المختلف ونسوغ اعدامه، أي أننا ندخل في عالم الثقافة، أدوات تفقده تجانسه للدرجة التي تبطل قيمته وتلغيه، وما يحدث في عالم الثقافة هذا يمتد بطريقة آلية إلى عالم السياسة، فنحن في السياسة لا نعرف المعرضة ولا نعترف بالمعارض، وهذا نتيجة طبيعية، لأن ما عندنا من فكر هو الذي يحدد ما نقوم به من عمل وطريقة قيامنا بهذا العمل، ففي كل زمان وفي كل مكان تقدس فيه القوة لا يمكن أن تمارس فيه السياسة، ولذلك فإن جعل السياسة ممكنة يتطلب قلبا في سلم القيم في الثقافة العربية، فما دام السيف أصدق إنباء من الكتب، فلا سبيل للسياسة، وما دامت السياسة مرفوعة فنحن ندعو الناس لخوض معارك مؤلمة كلما دعوناهم للاهتمام بقضايا الشأن العام، ولذلك وبسسبب التجارب المريرة عبر قرون عديدة، سجل المواطن العربي استقالة نهائية في العالم الذي نسميه زورا بعالم السياسة، وهو في الحقيقة عالم الحرب والموت والدم والدمار، ومن ينكر هذا ليتأمل الماضي القريب والحاضر لمعظم إن لم نقل جميع (الدول) (العربية)، وحتى يمكن إعادة المواطن العربي إلى السياسة، لا بد من خلقها، فمن غير المعقول إعادة المواطن العربي إلى ماهو مفقود، وحتى نتمكن من إيجاد السياسة لا بد من إصلاح الثقافة، ولكن الثقافة لا يمكن إصلاحها، من غير إصلاح الديانة، ذلك أن الدين هو المؤثر الأكبر في صناعة الوعي العام، وهو أساس الاجتماع البشري، والاسلام هو الرقم الصعب في معادلة القوة في هذ هى المنطقة، ويمكن الإشارة في عجالة إلى قلب بعض الاتجاهات العامة في الفكر الديني التي يمكن أن تكون عناوين على نوعية الاصلاح الديني المنشود من منظور قرآني:

أولا – نقل مصدر المعرفة من النص إلى الوجود الخارجي.

ثانيا - نقل مبحث الإيمان من الله إلى الكون والإنسان.

ثالثا - نقل مبحث الفقه من العبادات إلى المعاملات.

رابعا - نقل مبحث الاخلاق من الآخرة إلى الدنيا.

خامسا – إعادة الاعتبار لحقيقة الانسان في الرجل والمرأة

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

د. محمد العمار

درعا في 3 \ 1 \ 2009



[1] تغلب هذا الرجل في أواخر العصر العباس على منطقة وأعلن توليه عليها، فقام أحد القضاة وطلب منه أن يريهم عهد أمير المؤمنين له بتولي تلك المنطقة، وكان الليث قد أدرك مصدر الشرعية التي يستند إليها أمير المؤمنين، فنادى أحد حراسه وطلب منه أن يأتي بعهد أمير المؤمنين، فغاب الرجل قليلا ثم رجع ومعه شيء ملفوف في خرقة، فقال له افتحها ففتحها وإذ سيف في داخلها، فتعجب الجميع وعندها ابتدرهم قائلا وما هي الشرعية التي يمتلكها أمير المؤمنين غير هذا؟ فكأنه تكلم بغير المفكر فيه على شدة وضوحه!!

[2] وهذا الارتباط واضح في طبيعة الالفاظ المستخدمة لوصفهما فالدنيا تعني القريبة والأخرى تعنى الأبعد قليلا لكنهما حياة واحدة مشطورة بفعل الزمان إلى قريبة وبعيدة.

الثلاثاء، 27 يناير 2009

لا للاستسلام 000نعم للاعنف نحن بشر ولن نكون كذلك من غير التزام بالحقيقة ولذلك علينا أن نفعل. محمد العمار سأبقى أنتقد الخطأ كلما رأيته أو تراءى لي، والطاغية الوحيد الذي بوسعي قبوله هو ذلك الصوت الذي كبر في داخلي، أنا أعرف وأعترف أنني أنتمي إلى الأغلبية الصامتة، ولكني لن أصمت بعد اليوم، فلا يجدر بي أن أبقى متواطئا مع الخطأ بصمتي. ليس المهاتما إنما أنا أيضا محمد العمار 1 دعوة للمراجعة إن كل عمل يجب أن يسبقه تحليل عقلي هادئ ورزين، فلا يمكن العمل من غير علم، بل إن العمل من غير علم لا يعدوا أن يكون عبثا وخرابا، كالذي يحدث اليوم، خاصة إذا كنا مثلنا يؤمن بقانون السببية، ويؤمن بالمسؤلية الإنسانية، فلا يجدر بنا ولا يليق، أن نتجاوز تحليل الواقع الذي نحن بصدد الفعل فيه والعمل من خلاله، خاصة إذا كنا ننتمي لمدرسة في الفكر تعطي القيمة والأهمية للأسباب الداخلية، وتتجه إلى مساءلة الذات وبحث أسباب الخلل والعطل فيها، عندما تحدث المشكلات وتزمن، ونفشل في التقدم على طريق الحل. لكن مقاربة الواقع بقصد تغييره لا يجوز أبدا أن تمر عبر المصالحة معه، لاسيما إذا كنا نعرف ونعترف أن هذا الوضع جائر، وظالم وأنه وليد أمرين: - غيابنا كأمة عن ساحة الفعل السياسي. - وتواطؤ المصالح الاستعمارية في دعم هذا الواقع. هذا الواقع الذي دشن منذ وقت ليس بالبعيد بمقاييس التاريخ الإنساني المكتوب، على حساب حقوق شعب اضطر بفعل الظلمة وتواطؤ المظلومين أنفسهم أن يتحول إلى واقع، و يسعى الآن ويجتهد أن يتحول إلى حقيقة من حقائق التاريخ، يطمع أن يحول الواقع الظالم الخاطئ المؤقت بشهادة التاريخ، وخاصة تاريخ المنطقة،إلى واقع دائم، يجتهد أن يحول الأسطورة إلى حقيقة، ولن يتم له ذلك إلا إذا اعترفنا نحن بهذا! وهو يلتمس لذلك مختلف الفلسفات والتبريرات، فمرة باسم الواقعية، ومرة باسم الضرورة، ومرة كأحسن الممكنات في واقع مريض، لكن المرارة والألم يبلغان أقصاهما عنما نحاول تبرير هذا الواقع الظالم باسم اللاعنف، وأنا أقول ليس باسم اللاعنف! تبنوا أنتم هذا الموقف، أعلنوا انحيازكم للظلم، صرحوا عن يأسكم وقنوطكم، اعلنوا استسلامكم، لكم كل الحق في ذلك، ولكن ليس باسم اللاعنف، إن اللاعنف هو طريق الحيقية، ولن يكون أبدا سبيلا للهزيمة، إن اللاعنف طريق الحقيقة، ولن نكون لا عنفيين عندما نغتال الحقيقة، ولا يمكن أن يبقى للحقيقة معنى عندما نصدق كذبة بحجم إسرائيل، إن اللاعنف هو أسلوب لمقاومة الظلم والحيف وليس وصفة للاستستلام ولا تكتيك في المساومة، قد تخور عزائمنا، وتنقطع بنا السبل، ونمل من الكفاح والمواجهة، ولكن يجب أن لا نخذل اللاعنف، ونسوغ الظلم، ونسعى إلى المهادنة، عند ذلك نكف أن نكون لا عنفيين. لن يكون للاعنف معنى عندما نتصالح مع ظلامة بحجم قضية شعب فلسطين، نستطيع أن ندعي ما نشاء، وأن نصرح بما نريد، وأن نختار من المواقف ما نحب، لكن ليس من خلال اللاعنف، إننا بذلك نبخع اللاعنف ونلوي عنقه، ليكون شاهد زور، لن يعود للاعنف من معنى عندما تنقطع صلته بالحقيقة، و يكف عن أن يكون أسلوبا نزيها في مواجهة الظلم، ومقارعة الباطل، بل يصبح بوضوح دعوة للاستسلام، وتبشير صريح بالرضوخ لسياسات الأمر الواقع الجائرة المفروضة بالقوة العارية، على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، إن من يدعو لنوع من الواقعية التي يبررها فارق القوة لصالح الصهاينة، لا يمكن أن يكون لاعنفيا حقيقيا حتى ولو كان غاندي نفسه، فاللاعنف كما نفهمه هو تحرر داخلي من وهم القوة والاستلاب لها، إن القوة المادية هي نقيض قوة الروح وقوة الحقيقة، ومن يفكر في حل مشكلة الواقع على حساب الحقيقة انطلاقا من الحضور الكثيف للقوة المادية، يجب أن يعيد تعريف اللاعنف على المستوى الروحي والشخصي، إن من يؤمن بقيمة القوة العارية في صناعة التاريخ، لا يجدر به أن يكون داعية حرية، ولا يجدر به أن يكون معارضا للاستبداد، لأن الواقعية عينها تفرض عليه أن يقبل بأنصاف الحلول التي يراها في قضية فلسطين، فالمستبد يملك الجيش، ويملك المخابرات، ويملك رضا النظام العالمي المتواطئ نفسه الحاضر بتواطئه، عند كل مظلمة، في الداخل والخارج. - ربما يشعر شركاؤنا اللاعنفيين الأوربيين، بالصراع العربي الإسرائلي بطريقة مختلفة من موقع مختلف، لكن هذا لا يجوز أن يكون سببا لموقف يغتال روح اللاعنف، لأن اللاعنف هو انحياز للحقيقة، وليس اعترافا بالواقع الظالم، كما يحاولون أن يُلّبسوا علينا في قضية فلسطين، ربما نعذرهم في اتخاذ مواقف لا نرضى عنها كلا عنفيين، انطلاقا من إدراكنا بشريتهم وضعفهم وعجزهم عن مواجهة الواقع المؤلم في أوربا، (أوربا التي تكفر عن ماضيها المظلم ضد اليهود بصناعة حاضر يماثل الماضي تماما لكن هذه المرة ضد العالم الإسلامي)، لكنا أبدا لن نقبل أن يسّوقوا تراجعهم عن الحقيقة باعتباره انتصارا للحقيقة، أو عملا بروحها، أعتقد أننا قد شببنا عن هذا النوع من العبث، نقبل أن يضعفوا عن متطلبات اللاعنف مهما تكن الأسباب، ونتفهم تراجعهم عن روحه أمام ضغط إسرائيل، لكن لا نقبل ان يسوقوا ضعفهم باعتباره اقتضاء اللاعنف. - إذا تمكنا من الاعتراف بالظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون منذ ستين عاما، وأصبح هذا واضحا أمامنا، فلم يعد لدينا خيار في موقفنا، فليس لنا من خيار إلا الانحياز للحق ولم يعد من صلاحيتنا البحث عن أنصاف الحلول، ولا يقبل منا أن نوصف الواقع بلغة ملتوية فنقول : (إن إسرائيل لم تشجع على الاعتدال)، والتوصيف الأكثر إخلاصا للاعنف والحقيقة، أن نقول : (إن إسرائيل لم تعمل في سبيل التعايش في يوم من الأيام )، وهي بحكم طبيعتها لا يمكنها ذلك، فكيف يصبح التعايش ممكنا؟ عندما تطرد جارك من بيته وتستولي عليه أنت؟ أية وصفة للتعايش يمكن أن تصف له؟ - إن وهم القوة الذي يعشي أبصارنا فيضل بنا الطريق، ويذهب بنا للحلول الوسط بغض النظر عن الحقيقة التي نعلن التزامنا بها، هو نفسه الذي يعمي أبصار الصهاينة المحتلين، الذي يستغلون الأسطورة الدينية عند متديني الشعب اليهودي، لإنجاز مشروع استعماري لا علاقة له بالديانة اليهودية، بل هو استثمار استعماري وقوده متديني اليهود وضحاياه السكان المحليين في فلسطين. ولتوضيح الأمر جيدا نعيد سرد وقائع واحداث أضحت أكثر من معروفة : - وجود أسرائيل أصبح واقعا بقدر ما كان وجود جنوب أفريقيا واقعا، وبقدر ما كانت الإمارة الصليبية (مملكة القدس اللاتين) واقعا، والذي أحال ذلك الواقع خبرا بعد عين في الحالين، أن الهزيمة لم تتسرب إلى قلوب الناس، وأن اليأس لم يغلب الأفارقة في جنوب أفريقيا، ولم يقتل روح التضحية والجهاد ضد الغزاة في العالم الاسلامي في العصر الوسيط. - إسرائيل كانت القوة المسيطرة عسكريا، حتى حرب تموز 2006، ومنذ ذلك التاريخ توضح لدينا أن أسرائيل فقدت قوتها، وزاد إيماننا بقوة الارادة الإنسانية، ورأينا نموذج الإنسان الجديد الذي ولد في المنطقة، وعرفنا كيف ولد الجندي الأسرائيلي في غياب الانسان في هذه المنطقة، وكيف أن حضور الإنسان في هذه المنطقة كفيل بانتهاء عصر الهيمنة والقوة الاسرائيلية، وإذا تمكنت حماس من الصمود بعد الاجتياح البري ولم تتمكن اسرائيل بمساعدة الطابور الخامس من استئصالها، تكون الساعة الرملية التي تؤقت للملكة الباغية قد بدأت العد العكسي في عمرها كمستعمرة كبرى، وإن نجحت نكون قد وصلنا إلى نقطة الصفر، وعندها يجب أن نبدأ بداية حقيقية، مسلمتها الأولى هو أن فلسطين ليست مشكلتنا بل إن كل بلد عربي فيه واقع أكثر مراراة من فلسطين، ولذلك علينا في كل بلد أن نبدأ بناء دولة مواطنة، دولة الدستور ودولة حقوق الإنسان، أي أن فلسطين ليست الجبهة ولا العائق ولا المشكلة! بل نحن المشكلة كما هو واضح اليوم، من خلال واقعنا المريض حيث نحن عبء فلسطين ورجال فلسطين، فنحن في غير بلد عربي نحرس حدود العدو ونؤمنها صاغرين، ولا أحد للأسف يبصر ذلك!! - المصالح الدولية لن تتناغم معنا حتى نتناغم نحن مع مصالحنا، حيث هناك طلاق بائن بين مصالح النخب ومصالح الشعوب، فمصالح النخب الحاكمة مرتبطة بمصالح المستعمر، والمسيطر، ولذلك يتبادلان المواقف على حساب مصالح الأمة، لذلك علينا أن نفكر جديا كخطوة أولية في إعادة الوحدة إلى الأمة بتوحيد مصالح النخب ومصالح الشعوب في كل قطر، وهذا يحتاج لموقف ثقافي وموقف فكري مختلف، يجعل العمل السياسي الوطني ممكنا، ولذلك يجب أن ندشن ثقافة تخرج من ثنائية الشتيمة والاستستلام، أو الرفض في السر والتسليم في العلن، ما لم ندشن مثل هذه الثقافة سنبقى ضائعين وستبقى مصالحنا مضيعة وسيبقى الايقاع العالمي بعيدا عن مصالحنا. - الزعماء العرب في وضع مشلول، أنتجه المثقفون العرب المتواطؤون مع الطغيان الذي أدمنوا مدحه في الظاهر ولعنه في الباطن، والبلد الذي يعيش على المديح، بلد لا يمكن فيه تعرية الخطأ وإدانته ومعرفة الصواب وتزكيته، بلد ليس للحقيقة فيه كبير قيمة، ولذلك نحن بحاجة ماسة إلى روح ثقافية جديدة، تقوم على تقديس قول الحق والتزام الحقيقة، وهو طريق ليس بلا أثمان، لكن أثمانه ليست ساحقة بل هي بالمتناول، لأن التغيير لا يكون أبدا بلا أثمان، وإذا كنا نعول على التغيير الخارجي، فلننظر إلى التغيير أو التدمير الذي حل بالعراق، وإذا لم نكن مستعدين لدفع أي ثمن، فلنعلن الاستقالة التاريخية والانسانية، ولنكف عن الشكوى ولنقبل سياسة الأمر الواقع التي نروج لها مع المستعمر فهي مع الاستبداد أولى، ولها أسباب أكثر وجاهة. - إن المرجعية الأخلاقية لأي إدانة للظلم، ليس مرجعها النهائي المواثيق والقوانين الدولية، إن منظر القتل الذي تعافه النفوس، والتدمير الذي يتقزز منه كل من يراه، ومنظر الدماء الذي يؤلم كل ذي قلب، وبشاعة المحرقة المستمرة منذ أسبوع، لا يحتاج لمعرفة بحقوق الإنسان، إنما يحتاج لأدنى درجات الحس الإنساني، ويحتاج الإنسان معه لأدنى معرفة بالتاريخ ليدرك وحشيته ولا إنسانيته، بل وعبثيته وانعدام جدواه. - إن الذين يؤجلون الاصلاح بحجة المواجهة لم يكونوا مصيبين في السابق وليسوا صادقين اليوم، إن الاستعمار ثمرة للواقع المريض وليس سببا له، فتاريخيا كانت المنطقة قابلة للاستعمار قبل أن يخطر في بال أي مستعمر، بل قبل أن يولد الاستعمار الحديث، كما يقول مالك بن نبي، ومنذ وقت قريب رأينا بأم أعيننا كيف قاد الاستبداد العراق ليقع في براثن الاستعمار الذي لم يكن غادرها إلا شكلا، إن كل من له نية صادقة في مواجهة المستعمر، يجب أن يحصن جبهته الداخلية بالنقد القاسي، وليس بالمديح الممجوج الكاذب، يجب أن يحصن جبهت الداخلية بإيجاد المعارضة، إن لم تكن موجودة، وليس بالتضييق عليها والسعي لأعدامها عندما توجد، إن وطنا ليس للمواطن فيه قيمة لن يكون عصيا على الاختراق، إن وطنا ليس فيه للمواطن حقوق لن يدافع عنه أحد، إن وطنا ليس فيه مواطنون أحرار وطن سهل الاستباحة، منكسر الجناح، إن وطنا ليس فيه موطنون أعزاء لن يقف موقفا عزيزا أبدا، وسيسقط مثلما سقطت بغداد تحت ظل الطاغية، ليس هناك من فرق بين ظلم المستعمر وظلم المستبد، فالظلم ليس له دين ولا وقومية ولا طائفة، ولن يغير طعم الظلم ومذاقه إذا كان الظالم من أبناء جلدتنا، بل الظلم ظلم وهو ظلمات في الدنيا قبل الآخرة، وبالظلم تنهار المجتمعات وتتحلل الحضارات. - فيما يتعلق برغبة الجميع في السلام هذا حق لا شك فيه، ولن يكون موضع جدل، ولكن صرح العدل القائم فقط هو ما يمكن أن ينشيء السلام ويؤسس له، ومن غير عدل فلا مجال للسلام، بل ما نفعله هو استراحة المحارب، ريثما تتحسن موازين القوى وتتغير الظروف، ومما ينسب للبابا السابق قوله: (إذا أردنا أن نبحث عن السلام فيجب أن نبحث عن العدالة)، وقد صرح محقا أحد البرلمانيين البريطانيين : (إن محاربة (الارهاب) في العالم تتطلب وضع خطة لمحاربة الظلم والفقر والجوع والتفاوت بين الناس في العالم)، إن الظلم هو مصدر عدم الاستقرار في العالم، وهو مصدر الحروب فيه، فكيف عندما يكون الظلم بحجم قضية شعب فلسطين ووحشيته؟؟، لن يولد السلام على أسس جائرة، ولن تنبت شجرة السلام على المظالم القائمة، ومصر مثال جيد، وشعب مصر اليوم خرج من عبودية الطاغوت، وعندما يموت جيل المثقفين والقادة السياسيين الحاليين، الذي يحملون الآصار والأغلال، سيأتي جيل يبصر الطريق، وستقوم دولة وطنية تنتج خبز مواطنها ولا تسرقه، وأول قرارا ستتخذه عند أول مناسبة هو أيقاف العمل بالاتفاقية التي تربط الصهاينة بالنظام المصري، والتي لم تتحول إلى واقع رغم مرور قرابة الأربعين عاما على توقيعها. 2 في النتائج وما ينجم عنها... لم يكن الفوز بالعدالة احتمال قائم عند أول نزاع بين اثنين في تاريخ البشر، ولكن عدم القدرة على الفوز شيء، والاقرار بالأمر الواقع والاستكانة للظلم شيء آخر، ولو أن هذه الفلسفة تقبلها الفكرة الإنسانية السليمة، لما تحرر شعب ولما كسرت النير أمة ، ولما تقدم النوع الإنساني، إن تقدم الإنسان عبر التاريخ مبني على تطلعه إلى آفاق أبعد من الواقع الظالم البئيس، هذا النظر هو الذي مات من أجله سقراط، وصلب من أجله المسيح، وكافح من أجله محمد في ملحمة أسطورية ضربت أروع المثل على قدرة قوة الحقيقة على الانتصار على القوة العارية و تغيير الواقع الجائر، لمصلحة الأغلبية الصامتة، إن روح الله التي في الإنسان تمنعه من الاستكانة لمثل هذه الفلسفة التي تدعو للاستسلام، إن العدالة غير قابلة للتجزئة مثلما هي الحقيقة غير قابلة للتقسيم، وعلينا في العالم العربي أن نكف عن تحميل فلسطين وشعبها مسؤلية تخلفنا، فمنذ الأربعين سنة لم يرصد فلس عربي لقضية فلسطين، وأعلنت النخب جميعها أن السلام خيار أستراتيجي، وأن الحرب فات أوانها، لكنها استثمرت في إدارة مزارعها الخاصة فيما كان يسمى أوطانا، بنفس الطريقة، والمثقف إما تواطؤ مع هذا الواقع المريض، أو تجاهله وتعايش معه، وللأسف فإنه يأتي الآن ليبرر تخلفه وعدم قيامه بواجبه، بحجة فلسطين وقضيتها كما تفعل الأنظمة التي لم تفكر بقضية فلسطين منذ أربعين سنة، إلا لتفكر بأنجع الطرق للتخلي النهائي عنها وتسويق واقعها المريض والمتاجرة بها، أو استخدامها كورقة تفاوضية في أحسن الأحوال... هناك حقائق على الأرض: - شعب فلسطين ما زال الحقيقة الوحيدة على أرض فلسطين، وإن كانت تجاوره أكذوبة إسرائيل، ولن يستطيع المحتل ولا الاستكبارالعالمي الظالم المتواطئ تجاهل هذه الحقيقة التي تقلع العين، وشعب فلسطين لم يبلغ الدرجة التي ييأس فيها من استعادة حقه كاملا غير منقوص، فهم موجودون على الأرض بقوة الحقيقة، ورسوخ التاريخ، وإشراق المستقبل... - نحن لم تكسرنا "الهزيمة" ولن نرفع الرايات البيضاء، وخسارة هذا الجيل لن تدفعنا للتسليم بالواقع الظالم، سيأتي الجيل الفلسطيني والعربي والمسلم القادر على ذلك، ولذلك نسجل موقفنا بعدم المساومة على ما لا نملك حقق المساومة عليه، والحكومات التي يصنعها المستعمر لا تملك حق التنازل عن فلسطين وقضيتها، وإننا على يقين أن الصهاينة الذي بدأ مشروعهم بالنكوص والتراجع بعد خمسين سنة من بدئه، لن يكونوا بعد خمسين عاما جزءا من حاضر المنطقة بل جزءا من تاريخها، ولنا أدلة كثيرة من التاريخ في الإمارات الصليبية التي عاشت قرابة القرنين، والدولة العنصرية التي عاشت أربعة قرون في جنوب أفريقيا، نحن لسنا طلاب موت، ولا تجار دماء، لكن لن يغض من قدرنا أن نموت في سبيل الحقيقة، ولن تنتقص كرامتنا أن تعرضنا للتعذيب والانتهاك في سبيل التزامنا بها، ولا حقيقة أكبر من شعب فلسطين. - إن عصرالتفوق الاسرائيلي النهائي في المنطقة قد بدأ بالانحسار، بل إن فشل القوة العارية في كسب المعارك قد انتهى بطريقة نهائية، وليس أدل على ذلك مما حدث في لبنان، ومما يحدث اليوم في العراق والأفغان، إن القوة العارية يمكن أن تقتل وتدمر، وبهذا تكون قد خلقت المشكلة، وبعد ذلك يجب البحث عن الحل، وهذا ما يحدث اليوم في العراق والافغان والصومال، إنهم اليوم يحاولون الترقيع خلف القوة العارية ولملمة هزيمتها بالسياسة، وعلينا الحذر والانتباه، لقد سقطت الأداة ولم يسقط المشروع، إنهم يحاولون أن يحققوا بالسياسة ما عجزوا عن تحقيقه بالقوة العارية، وهنا يأتي دور المثقف، وتبرز أهمية معرفته وقيمتها، ليس من وظيفة المثقف أبدا تبرير المظالم ولا فلسفة الهزائم. - إن (العالم) اليوم أو التسعة رهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، والذين خلقوا المشروع الاستعماري اسرائيل ويسهرون على بقائه، لم يعد بإمكانهم التستر على جرائم المستعمر، وليس أخزى للإدارة الأمريكية اليوم، أنها تفعل مثلما كان يفعل الاتحاد السوفياتي السابق، وما تفعله الآن حكومات الطغيان في العالم الثالث من حجب الحقائق عن مواطنيها، لن يدوم هذا الحال، ولن يكون بعيدا ذلك اليوم الذي يتخلى فيه أصحاب ذلك المشروع كما تخلو عن مشاريعهم السابقة في جنوب أفريقيا وفرموزا وهونغ كونغ، وهذا أمر يصنعه صبر وصمود الفلسطينيين، ويعجل فيه وعي العرب وقيام حكومات وطنية في الوطن العربي، لقد سئم المستكبرون من دعمهم للمشروع الصهيوني، والأصوات تتعالى في غير بلد لنبذه، حتى بين الجالية اليهودية في أمريكا، ولن يطول الأمر قبل أن ينقطع عنه شريان الحياة، وعنده سيذوى مثلما تذوى شجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. - هذه الصورة التي قدمنا توجب علينا ما يلي: - إن كنّا نريد التضامن فعلاً مع المظلومين في كل فلسطين، فليس سبيل ذلك البحث عن الحلول الوسط، والتمسك بأنصاف الحلول أو الدعوة إليها، بل الإدانة الواضحة الصريحة للعدوان، ودعم الأخوة في فلسطين ماديا ومعنويا، أوعلى الأقل أن ننّظر للصمود والثبات والتمسك بالحقيقة، وليس التنظير لليأس والهزيمة وسبل الاستسلام، كما فعل عرب عديدون ومثقفون كثر، عندما بدأت حرب تموز مستبقين النتائج ومروجين لأدانتها وتثبيط الناس عنها، نحن نعرف الأثمان التي يدفعها الفلسطينيون، لكنها ليست أثمانا اختيارية، وأكثر ما يؤلمني أن السبيل الذي يسلكون رغم إيماني بقدرته على هزيمة المشروع الصهيوني، لكني أشك بقدرته على صناعة الدولة الوطنية، ورغم ذلك علينا أن ندعم تضحياتهم وأن نبحث السبل التي تجعل هذه التضحيات، أكثر قيمة وجدوى وهنا يأتي دور اللاعنف، ودورنا كلاعنفيين. أمّا فيما يتعلق بإسرائيل علينا أن ندرك حقيقة مهمة وهي أن من يؤمن بالقوة كوسيلة لحل النزاعات فإنه عندما يمتلكها، و يعلم أنه قد جرد خصمه منها، ومن كل السبل إلى حيازتها، لا يشعر أنه مضطر للتفاوض مع خصمه المجرد، إلا ليملي عليه رغباته التي لا يجوز ألا تتحول إلى أوامر واجبة التنفيذ، وهذا ما يفعله مستبدوا الداخل مع المعارضات الوطنية فلا مجال للحوار، إن من يؤمن بالقوة يحترم ويقدر من يملكونها فقط، ونحن كلاعنفيين مثلما نسعى لإبطال سحر القوة في الداخل، علينا أن نسعى إلى إبطال سحرها بين الدول والمجتمعات، لقد اتخذ الفلسطينيون القرار : إنهم سيواجهون القوة المدمرة بأجسادهم العارية، فليس من حق لا عنفي يؤمن بالحقيقة ويحترم الحياة الإنسانية أن يبخسهم موتتهم الشجاعة وموقفهم النبيل، حتى عندما تفوتنا الشجاعة فلا نستطيع إدانة المجرم دون التعريض بالضحية!!! علينا أن نكون أكبر من امتهان الحقيقة بمساواة المجرم بالضحية، العنف لم يبدأ مع حماس ولا مع صواريخها، العنف بدأ مع الاحتلال، وانهاء الاحتلال هو الحل الذي ينهي المشكلة ويوقف دوامة العنف، الدائرة من طرف واحد، أرجو أن لا يوجد لا عنفي مثل بوش الذي يتفهم دوافع أسرائيل ولا يستطيع أن يتفهم دوافع حماس. 3 في المحصلة والختام... تاريخ عريض تعلمت أن أتذوقه وتدربت على استنطاقه، كان الأمر في البداية تعبدا نزولا عند الأمر القرآني (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كانت عاقبة الذين خلو من قبل)، ثم أصبح إيمانا عميقا تعززه الخبرة اليومية والمعرفة التاريخية، حتى أصبح من أهم مراجعي وأقدسها، وهو يحوي فيما يحويه ما ذكره الأستاذ أكرم الذي اتكأت على مقالته، المعنونة لا للحرب نعم للسلام، في كتابتي هذا المقال، أقول يحوي ما نقله منه عن (المؤرخ الإسرائيلي، والاستاذ السابق في الجامعة العبرية، يوشوا پراوير بعنوان تاريخ مملكة القدس اللاتينية، الذي يدرس فيه ويحلل بمنتهى الجدّية والموضوعية الأسباب التي أدت إلى انهيار هذه المملكة التي أقامها الصليبيون في حينه ودامت ما يقارب المئتي عام. وهذه النتيجة المرعبة تقول أنها انهارت في النهاية لأن الذين أنشأوها لم يستطيعوا خلال مئتي سنة أن يقيموا أية علاقة ودّية وطبيعية لا مع دول الجوار ولا مع الشعوب المحيطة). رغم أنني لم أستطع أن أدرك سبب الرعب الذي انتاب الاستاذ أكرم، عندما آلت الزريعة الطفيلية الغازية إلى نهايتها الطبيعية التي انتهت إليها (مملكة القدس اللاتيتية)، والتي ستنتهي إليها مملكة الصهاينة الحديثة لكن ليس بعد مئتي عام، بل لن تعيش هذه المملكة على جبروتها حتى تحتفل بمئويتها الأولى، لأن سرعة التغير التاريخي قد اطردت، ونحن نبصر علامات انحسار هذه المملكة وتراجعها، بعد أن بلغت أقصى اتساعها باحتلال بيروت العاصمة العربية الثانية، ثم أخذت بالتراجع حتى تركت غزة لفقدان السيطرة، واستقدمت ياسر عرفات وأتباعه ليضع حدا لا نتفاضة الشعب الفلسطيني، وكيف اتجهت عندما فشلت هذه الخطة- تحت تأثير قلق المصير - لبناء جدار الفصل العنصري، الذي أحال حياة المواطن الفلسطيني جحيما وبدد ثروته وصادر مصدر رزقه وإن لم يوهن إرادته ويفل عزيمته، لكنني أؤكد أن هذه المملكة تسلك سبيل تلك المملك فلا بد أن تنتهي نهايتها، وأرجو أن نوطن أنفسنا كي لا تصدمنا هذه الحقيقة المرة ثانية، لا يمكن لأسرائيل أن تؤسس علاقات طبيعية مع دول هذه المنطقة، قد تفعل مع النخب الحاكمة غير الشرعية، وعندما نتمكن من انتاج نخب تمثل روح الأمة وتاريخها وتتطلع نحو مستقبلها فلن يكون لحلفاء أسرائيل، كان سقراط يشبه نفسه بذبابة الخيل التي توقظ عقول النائمين وتنبههم، أعتقد أن المظالم الاسرائيلية، تفعل نفس الفعل، ليس فيما يتعلق بالوجدان والضمير في منطقتنا بل في العالم أجمع، إن إسرائيل هي الدليل الأخير على وحشية الاستعمار وفداحته، وهي لن تعمر طويلا أبدا، فهي لن تبلغ أجيال الدولة الخلدونية، لقد بدأ داء الانحلال يسري في عروقها، والذي يطيل عمرها هو الوضع العربي الرديء، لكنه ليس بعيدا اليوم الذي يولد فيه إنسان هذه المنطقة من جديد، لقد بدت الطلائع بالظهور، لقد اختفى الانسان المستكين منزوع الإرادة، وولد الإنسان الذي يملك إرادة التحرر، وما دام قد ملك الإرادة فلن ننتظر كثيرا اليوم الذي يمتلك فيه القدرة لينجز عمله بالإرادة الجازمة والقدرة التامة التي تجعل نجاح العمل ضرية لازب. والســلام علــيكم د. مــحــمّــد الــعــمّــار *** *** ***

الاثنين، 3 نوفمبر 2008

أسطورة التطرف!

العزيزة الغالية عفراء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: منذ وقت طويل تراودني رغبة الكتابة إليكم، وتبادل بعض الأفكار وتقليب وجهات النظر معكم، وفي كل مرة أهم فيها تصرفني عن ذلك الطوارئ، واليوم أجد في نفسي الرغبة، وقد أسعفني الموضوع الذي كتبت، والوقت المتاح عندي، وما يجول في خاطري عن الموضوع الذي تناولت. في البداية أرجو أن يكون واضحا في الأذهان المبدأ الذي نسلم به جميعا، والذي نعتبره حجر الزاوية في منطلفاتنا الفكرية، وهو المبدأ القرآني الذي جلّاه مالك عبر مصطلح القابلية للإستعمار، ورصد جودت جزءا من جهده الفكري لبيانه وتوضيحه، وتنزيله على النص القرآني، عندما كتب (حتى يغيروا)، ووسعه خالص فجعل له امتدادت ثقافية، وميزات عملية في بحثه المتميز(النقد الذاتي) وأنا أقصد المبدأ المتضمن في قوله تعالى( ما أصابك من سيئة فمن نفسك) والتأكيد هنا له غاية أساسية، مؤداها أن انتقادنا للغرب لايعني بأي حال من الأحوال تبرئة ذواتنا، باعتبارنا المسؤول رقم واحد عن كل ما يكتنف حياتنا من صعوبات، وأن الآخر عندما يمارس ألاعيبه فإنما يستثمر في الأرض التي يهيئها له جهلنا وغيابنا عن العالم، ومع اعترافنا بهذه الحقيقة الأولية، فإن بحث الموضوع بأبعاده الكلية حاجة إنسانية، إضافة لكونه ضرورة معرفية تساهم في توضيح الصورة، وتجلية المشكل، كما أن العالم الجديد بانكماش أبعاده المستمر، حتى ضاق بأهله، لم يعد يسمح ببقاء بعض الجزر العالمية التي تشبه الجنان المعزولة، والتي تؤمن لساكنيها حياة أهل الجنة التي تمنعهم من الإلتفات لمعاناة الذين يصلون النار خارج الحدود، أو تحسس آلام ومعاناة البشر هناك، فقد بدأت الحدود تتكسر تحت وطأة الجوع والبطالة والقمع الممارس خارج الحدود، حيث يستثمر الغرب بالآلام والدماء منذ نهاية الحقبة الكولينيالية، فقد تواطأ مع النخب المرتبطة به وجعلها وكالات، تجير موارد بلادها في خدمة مصالحه وضمان تدفق الخيرات من أرض العبيد حتى تؤمن فضل القيمة الذي يسمح بعيش المواطن الأول (الأبيض)في البحبوحة التي يعيش، والتي يضمنها تدفق أكثر من مليار دولار يوميا[2] من أرض المعذبين إلى روضات المترفين، ولم يكن الإرهاب أو التطرف محل اهتمام في العالم أو الإعلام العالمي عندما كانت الحروب الأهلية تلتهم الحيوات والخيرات والآمال وخطط التنمية في دول العالم الثالث، بل كانت هي التربة الي يستثمر فيها الغرب، المرة الأولى التي أحس فيها الغربيون بالمشكلة ودخل الموضوع دائرة اهتمامهم وانبروا لمواجهته، بشكل جدي كانت بعد الحادي عشر من أيلول عام 2000، ولم يواجهوا الموضوع بمسؤلية الإنسان العالم، ولا نزاهة الإنسان الراشد، بل أرادوا أن يواجهوا الموضوع دون كشف حقيقة استثمارهم المشؤوم بآلام الناس لمدة قرنين من الزمن، أرادوا أن يحلوا المشكلة دون بحث الأسباب العميقة الحقيقية لها، وقد جندوا الإعلام الخاص والعام وحركوا الجيوش، وملؤا العالم ضجيجا كي يمنعوا الناس من التفكير الهادئ الرزين في المشكلة، ويحولوا بين الناس وسماع الأصوات التي تحدثت عن الأسباب العميقة للعنف العالمي، لقد أرادو أن يدخلوا في روعنا أن العالم الجميل الآمن تزعزع أمنه في أيلول ألفين وأن الإرهاب بدأ والتطرف ولد بعد أحداث أيلول، وأرادوا كما يقال أن يأكلوا بعقول الناس حلاوة (وقد فعلوا ذلك بعقول الكثيرين للأسف الشديد)، ولقد واجهوا الموضوع بخبث (الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاويين)، ولذلك امتنعوا منذ اللحظة الأولى عن وضع تعريف للإرهاب أو التطرف[3]، لأن وضع التعريف معناه تحديد قواعد لا يمكن الإلتفاف عليها والتلاعب بها، ومن ثم تضيق إمكانية المناورة والقفز على الحقائق. في هذه الأجواء أصبح الإرهابي والمتطرف كل من يبدي بعض الممانعة للمشروع الأمريكي الصفيق، الذي يستبيح كرامات الأفراد والدول بلا حدود، ولذلك أمرعرفات بالتعبير عن موقفه المناهض للأعمال التي تنفذها المجموعات الفلسطينية كما يلي: يجب أن تدينها بالعربية والانجليزية، وبشكل علني فيما يشبه الاستسلام التام، وفي الوقت الذي تحاصر بعض الأنظمة وتفتح ملفاتها وتنقب سجلاتها التاريخية، وتتعرض للضغوط( فقط لأنها تفكر في الاشتراط على الخدمة بحيث تكون خادما يحتفظ ببعض الكرامة ظاهريا)، تفتح أبواب السماء والرضا لسالكي سبيل الاستسلام غير المشروط ( ليبيا). وقد كان من نتائج هذه الجلبة التي أحدثتها التحركات العسكرية الغربية في العالم، والصخب الذي أحدثته الميديا التابعة لنظم الهيمنة الغربية أمران: 1 – ربط الإرهاب بالإرهابيين الصغار الذي ضلوا السبيل، ففي الوقت الذي يدافع فيه هؤلاء عن قضايا عادلة، فإنهم يسلكون سبلا خاطئة تضعهم موضع الإدانة، ثم تنسحب هذه الإدانة على قضاياهم لتصبح قضايا غير عادلة أو ملتبسة إلتباسا يشجع العدوان على الأقل، فالذي يحمل بعض الديناميت، ويفجر حافلة ركاب إرهابي محل إدانة بينما الجيش الذي يحرث الأراض السكنية في الرمادي والأنبار والفالوجة، وآلة الموت التي تحصد الأرواح بشكل يومي في غزة ليس محل نظر أو تتبع أو إدانة!! 2 – الانتباه للجرائم الصغيرة التي يرتكبها الإرهابيون الصغار، في شوارع المدن والتي لا يوجد الكثير من الأدلة على حقيقة منفذيها، ولا يستبعد أن نعرف بعد نصف القرن عندما يتم الافراج عن وثائق المخابرات، أن المخابرات الغربية كانت وراءها كما كشف الجاسوس الروسي المغدور بالسم في بريطانيا(ليفيتنكو) أن (ك.ج.ب) كان وراء الأعمال الإرهابية التي هزت موسكوا وشكلت المبرر للرئيس بوتن لغزو الشيشان الثاني، الذي تمخض عن أعمال إبادة في الشيشان لا يعلم مداها إلا الله وكنا قد سمعنا مثل ذلك عن أحداث أيلول. أما عن الأسباب المفترضة والتي تثبت الدراسات أنها غير حقيقية كما تفضلت في الدراسة التي أشرت إليها وقبلها قامت مؤسسة غربية بإعداد دراسة عن الانتحاريين الفلسطين، وكانت النتيجة مشابهة للدراسة التي أشرت، فقد كان الانتحاريون هم الأذكياء الأغنياء الآملون وليس الفقراء الأغبياء المحبطون، وفيما أتصور فإن خلل التحليل له منشآن : 1 – الأول هو التجاهل المتعمد الواعي لسبب الإرهاب والذي أشرنا إليه والذي يمكن تلخيصه في الظلم[4] المؤسس الذي ترعاه قوى الهيمنة العالمية، في سعيها للحفاظ على قواعد العالم القديم التي تضمن لها التمتع بامتيازاتها غير العادلة، التي تعطيها الحق في السطو على جهود الآخرين والاستحواذ على ممتلكاتهم. 2 – الأرضية الفلسفية العميقة للحضارة الغربية، والتي تستبطن البعد المادي باعتباره الأفق الإنساني الوحيد، أو الأساسي الذي يمكن رصد وتحليل السلوك الإنساني من خلاله. والجديد في الموضوع أن التطورات العالمية التي حدثت في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، جعلت الترتيبات التي وضعها المنتصرون في الحرب الثانية غير كافية لضمان التسيير الآمن للعالم مع المحافظة على امتيازات المستكبيرن، لقد بدأ كل شيئ بالتداعي، فالحدود لم تعد آمنة، واتجاه السلاح لم يعد وحيدا[5]، كما أن القوة لم تعد وسيلة ردع فعالة[6]. لقد كان عام ألفين - بحق - تدشينا لعالم جديد، وإن يكن بغير الاتجاه الذي يحرص المستكبرون على دفع التاريخ باتجاهه، والميزة الأبرز لهذا العالم الجديد، هي تمرده على القواعد التي حكمت العالم القديم، ومن ثم فإن الجميع مطالبون بالبحث عن أفق إنساني جديد يمّكّن من استمرار الحياة الإنسانية، دون ممارسة طقوس عبادة القوة وتقديم القرابين البشرية. لم يعد من الممكن للغربيين أن يتمتعوا بخيرات العالم في الوقت الذي يعاني فيه جيرانهم، ولم يعد التحالف مع الاستبداد ممكنا دون أن يتولد التطرف والإرهاب، إن القمع والفقر والجهل هي من أكبر مهددات السلم العالمي، ويجب أن ينظر لمناطق القمع والفقر والجهل مثلما ينظر للمناطق االموبوءة بشلل الأطفال وأنفلونزا الطيور باعتبارهما تهديدا للصحة العالمية. لقد انتهى الوقت الذي كان يمكن فيه الاسثمار في آلام الآخرين، وأصبحت هذه الممارسة خطرة، حيث الفاعلين معرضين للمخاطرالمدمرة لهذه اللعبة بنفس الدرجة وبشكل مباشر ، لقد بدأ التاريخ يقول كلمته، وبدأ الناس يدفعون بطريقة شبه مباشرة أثمان الأخطاء التي يقترفون، إن القرن القادم لا يمكن إلا أن يكون قرنا إنسانيا عماده التعاون على البر والتقوى[7]، هذه ميزة هذا القرن وهذه تباشير العالم الجديد، التي أخذت تلوح في الأفق، مؤذنة ببدء العد التنازلي لتدشين عالم جديد (تحكمه كلمة السواء، وتحل فيه القضايا والمشاكل التي تواجه البشر في أفق إنساني)، إيذانا ببدء النشأة الأخرى في الخلق والتي تشكل إرهاصات الوقوف على أعتاب عالم جديد يدلف متسارعا باتجاه عصر (إني أعلم ما لاتعلمون )، وإن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . [1] حسب التعريف الذي نقله محمد أركون عن قاموس لاروس الكبير في تاريخية الفكر العربي الإسلامي [2] جوج مونبيوت في كتابه عن البرلمان العالمي [3] ذكر شومسكي أنه وبحسب تعريف الكراسة العسكرية الأمريكية فإن أمريكا هي دولة تقوم بأعمال إرهابية [4] فقد ذكر لي الأستاذ جودت أن الأمريكان عملوا دراسة في الستينيات من القرن الماضي عن سبب كراهية العرب لأمريكا وكان هناك سببان محل إجماع وهما (دعم اسرائيل ودعم الاستبداد) وهذان المبرران برزا مرة أخرى في دراسة جديدة بعد 11 إيلول، لكن هذا السبب الحقيقي يعرض عنه أصحاب القرار، لأنه يضعهم أما ضمائرهم التي لا يحبون مواجهتها رعاية لمصالحهم. [5] ذكر ذلك في معرض حديثه عن 11 إيلول [6] الأمر الذي تجلى بشكل كارثي في الحروب الغربية الأخيرة بدءا بالافغان وانتهاء بلبنان. [7] لقد بدأ البشر يقتربون بشكل حثيث مرغمين تسوقهم عصا التاريخ الغليظة، مما كان حتى وقت قريب اوهام وخيالات.
أس