الاثنين، 3 نوفمبر 2008

أسطورة التطرف!

العزيزة الغالية عفراء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: منذ وقت طويل تراودني رغبة الكتابة إليكم، وتبادل بعض الأفكار وتقليب وجهات النظر معكم، وفي كل مرة أهم فيها تصرفني عن ذلك الطوارئ، واليوم أجد في نفسي الرغبة، وقد أسعفني الموضوع الذي كتبت، والوقت المتاح عندي، وما يجول في خاطري عن الموضوع الذي تناولت. في البداية أرجو أن يكون واضحا في الأذهان المبدأ الذي نسلم به جميعا، والذي نعتبره حجر الزاوية في منطلفاتنا الفكرية، وهو المبدأ القرآني الذي جلّاه مالك عبر مصطلح القابلية للإستعمار، ورصد جودت جزءا من جهده الفكري لبيانه وتوضيحه، وتنزيله على النص القرآني، عندما كتب (حتى يغيروا)، ووسعه خالص فجعل له امتدادت ثقافية، وميزات عملية في بحثه المتميز(النقد الذاتي) وأنا أقصد المبدأ المتضمن في قوله تعالى( ما أصابك من سيئة فمن نفسك) والتأكيد هنا له غاية أساسية، مؤداها أن انتقادنا للغرب لايعني بأي حال من الأحوال تبرئة ذواتنا، باعتبارنا المسؤول رقم واحد عن كل ما يكتنف حياتنا من صعوبات، وأن الآخر عندما يمارس ألاعيبه فإنما يستثمر في الأرض التي يهيئها له جهلنا وغيابنا عن العالم، ومع اعترافنا بهذه الحقيقة الأولية، فإن بحث الموضوع بأبعاده الكلية حاجة إنسانية، إضافة لكونه ضرورة معرفية تساهم في توضيح الصورة، وتجلية المشكل، كما أن العالم الجديد بانكماش أبعاده المستمر، حتى ضاق بأهله، لم يعد يسمح ببقاء بعض الجزر العالمية التي تشبه الجنان المعزولة، والتي تؤمن لساكنيها حياة أهل الجنة التي تمنعهم من الإلتفات لمعاناة الذين يصلون النار خارج الحدود، أو تحسس آلام ومعاناة البشر هناك، فقد بدأت الحدود تتكسر تحت وطأة الجوع والبطالة والقمع الممارس خارج الحدود، حيث يستثمر الغرب بالآلام والدماء منذ نهاية الحقبة الكولينيالية، فقد تواطأ مع النخب المرتبطة به وجعلها وكالات، تجير موارد بلادها في خدمة مصالحه وضمان تدفق الخيرات من أرض العبيد حتى تؤمن فضل القيمة الذي يسمح بعيش المواطن الأول (الأبيض)في البحبوحة التي يعيش، والتي يضمنها تدفق أكثر من مليار دولار يوميا[2] من أرض المعذبين إلى روضات المترفين، ولم يكن الإرهاب أو التطرف محل اهتمام في العالم أو الإعلام العالمي عندما كانت الحروب الأهلية تلتهم الحيوات والخيرات والآمال وخطط التنمية في دول العالم الثالث، بل كانت هي التربة الي يستثمر فيها الغرب، المرة الأولى التي أحس فيها الغربيون بالمشكلة ودخل الموضوع دائرة اهتمامهم وانبروا لمواجهته، بشكل جدي كانت بعد الحادي عشر من أيلول عام 2000، ولم يواجهوا الموضوع بمسؤلية الإنسان العالم، ولا نزاهة الإنسان الراشد، بل أرادوا أن يواجهوا الموضوع دون كشف حقيقة استثمارهم المشؤوم بآلام الناس لمدة قرنين من الزمن، أرادوا أن يحلوا المشكلة دون بحث الأسباب العميقة الحقيقية لها، وقد جندوا الإعلام الخاص والعام وحركوا الجيوش، وملؤا العالم ضجيجا كي يمنعوا الناس من التفكير الهادئ الرزين في المشكلة، ويحولوا بين الناس وسماع الأصوات التي تحدثت عن الأسباب العميقة للعنف العالمي، لقد أرادو أن يدخلوا في روعنا أن العالم الجميل الآمن تزعزع أمنه في أيلول ألفين وأن الإرهاب بدأ والتطرف ولد بعد أحداث أيلول، وأرادوا كما يقال أن يأكلوا بعقول الناس حلاوة (وقد فعلوا ذلك بعقول الكثيرين للأسف الشديد)، ولقد واجهوا الموضوع بخبث (الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاويين)، ولذلك امتنعوا منذ اللحظة الأولى عن وضع تعريف للإرهاب أو التطرف[3]، لأن وضع التعريف معناه تحديد قواعد لا يمكن الإلتفاف عليها والتلاعب بها، ومن ثم تضيق إمكانية المناورة والقفز على الحقائق. في هذه الأجواء أصبح الإرهابي والمتطرف كل من يبدي بعض الممانعة للمشروع الأمريكي الصفيق، الذي يستبيح كرامات الأفراد والدول بلا حدود، ولذلك أمرعرفات بالتعبير عن موقفه المناهض للأعمال التي تنفذها المجموعات الفلسطينية كما يلي: يجب أن تدينها بالعربية والانجليزية، وبشكل علني فيما يشبه الاستسلام التام، وفي الوقت الذي تحاصر بعض الأنظمة وتفتح ملفاتها وتنقب سجلاتها التاريخية، وتتعرض للضغوط( فقط لأنها تفكر في الاشتراط على الخدمة بحيث تكون خادما يحتفظ ببعض الكرامة ظاهريا)، تفتح أبواب السماء والرضا لسالكي سبيل الاستسلام غير المشروط ( ليبيا). وقد كان من نتائج هذه الجلبة التي أحدثتها التحركات العسكرية الغربية في العالم، والصخب الذي أحدثته الميديا التابعة لنظم الهيمنة الغربية أمران: 1 – ربط الإرهاب بالإرهابيين الصغار الذي ضلوا السبيل، ففي الوقت الذي يدافع فيه هؤلاء عن قضايا عادلة، فإنهم يسلكون سبلا خاطئة تضعهم موضع الإدانة، ثم تنسحب هذه الإدانة على قضاياهم لتصبح قضايا غير عادلة أو ملتبسة إلتباسا يشجع العدوان على الأقل، فالذي يحمل بعض الديناميت، ويفجر حافلة ركاب إرهابي محل إدانة بينما الجيش الذي يحرث الأراض السكنية في الرمادي والأنبار والفالوجة، وآلة الموت التي تحصد الأرواح بشكل يومي في غزة ليس محل نظر أو تتبع أو إدانة!! 2 – الانتباه للجرائم الصغيرة التي يرتكبها الإرهابيون الصغار، في شوارع المدن والتي لا يوجد الكثير من الأدلة على حقيقة منفذيها، ولا يستبعد أن نعرف بعد نصف القرن عندما يتم الافراج عن وثائق المخابرات، أن المخابرات الغربية كانت وراءها كما كشف الجاسوس الروسي المغدور بالسم في بريطانيا(ليفيتنكو) أن (ك.ج.ب) كان وراء الأعمال الإرهابية التي هزت موسكوا وشكلت المبرر للرئيس بوتن لغزو الشيشان الثاني، الذي تمخض عن أعمال إبادة في الشيشان لا يعلم مداها إلا الله وكنا قد سمعنا مثل ذلك عن أحداث أيلول. أما عن الأسباب المفترضة والتي تثبت الدراسات أنها غير حقيقية كما تفضلت في الدراسة التي أشرت إليها وقبلها قامت مؤسسة غربية بإعداد دراسة عن الانتحاريين الفلسطين، وكانت النتيجة مشابهة للدراسة التي أشرت، فقد كان الانتحاريون هم الأذكياء الأغنياء الآملون وليس الفقراء الأغبياء المحبطون، وفيما أتصور فإن خلل التحليل له منشآن : 1 – الأول هو التجاهل المتعمد الواعي لسبب الإرهاب والذي أشرنا إليه والذي يمكن تلخيصه في الظلم[4] المؤسس الذي ترعاه قوى الهيمنة العالمية، في سعيها للحفاظ على قواعد العالم القديم التي تضمن لها التمتع بامتيازاتها غير العادلة، التي تعطيها الحق في السطو على جهود الآخرين والاستحواذ على ممتلكاتهم. 2 – الأرضية الفلسفية العميقة للحضارة الغربية، والتي تستبطن البعد المادي باعتباره الأفق الإنساني الوحيد، أو الأساسي الذي يمكن رصد وتحليل السلوك الإنساني من خلاله. والجديد في الموضوع أن التطورات العالمية التي حدثت في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، جعلت الترتيبات التي وضعها المنتصرون في الحرب الثانية غير كافية لضمان التسيير الآمن للعالم مع المحافظة على امتيازات المستكبيرن، لقد بدأ كل شيئ بالتداعي، فالحدود لم تعد آمنة، واتجاه السلاح لم يعد وحيدا[5]، كما أن القوة لم تعد وسيلة ردع فعالة[6]. لقد كان عام ألفين - بحق - تدشينا لعالم جديد، وإن يكن بغير الاتجاه الذي يحرص المستكبرون على دفع التاريخ باتجاهه، والميزة الأبرز لهذا العالم الجديد، هي تمرده على القواعد التي حكمت العالم القديم، ومن ثم فإن الجميع مطالبون بالبحث عن أفق إنساني جديد يمّكّن من استمرار الحياة الإنسانية، دون ممارسة طقوس عبادة القوة وتقديم القرابين البشرية. لم يعد من الممكن للغربيين أن يتمتعوا بخيرات العالم في الوقت الذي يعاني فيه جيرانهم، ولم يعد التحالف مع الاستبداد ممكنا دون أن يتولد التطرف والإرهاب، إن القمع والفقر والجهل هي من أكبر مهددات السلم العالمي، ويجب أن ينظر لمناطق القمع والفقر والجهل مثلما ينظر للمناطق االموبوءة بشلل الأطفال وأنفلونزا الطيور باعتبارهما تهديدا للصحة العالمية. لقد انتهى الوقت الذي كان يمكن فيه الاسثمار في آلام الآخرين، وأصبحت هذه الممارسة خطرة، حيث الفاعلين معرضين للمخاطرالمدمرة لهذه اللعبة بنفس الدرجة وبشكل مباشر ، لقد بدأ التاريخ يقول كلمته، وبدأ الناس يدفعون بطريقة شبه مباشرة أثمان الأخطاء التي يقترفون، إن القرن القادم لا يمكن إلا أن يكون قرنا إنسانيا عماده التعاون على البر والتقوى[7]، هذه ميزة هذا القرن وهذه تباشير العالم الجديد، التي أخذت تلوح في الأفق، مؤذنة ببدء العد التنازلي لتدشين عالم جديد (تحكمه كلمة السواء، وتحل فيه القضايا والمشاكل التي تواجه البشر في أفق إنساني)، إيذانا ببدء النشأة الأخرى في الخلق والتي تشكل إرهاصات الوقوف على أعتاب عالم جديد يدلف متسارعا باتجاه عصر (إني أعلم ما لاتعلمون )، وإن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . [1] حسب التعريف الذي نقله محمد أركون عن قاموس لاروس الكبير في تاريخية الفكر العربي الإسلامي [2] جوج مونبيوت في كتابه عن البرلمان العالمي [3] ذكر شومسكي أنه وبحسب تعريف الكراسة العسكرية الأمريكية فإن أمريكا هي دولة تقوم بأعمال إرهابية [4] فقد ذكر لي الأستاذ جودت أن الأمريكان عملوا دراسة في الستينيات من القرن الماضي عن سبب كراهية العرب لأمريكا وكان هناك سببان محل إجماع وهما (دعم اسرائيل ودعم الاستبداد) وهذان المبرران برزا مرة أخرى في دراسة جديدة بعد 11 إيلول، لكن هذا السبب الحقيقي يعرض عنه أصحاب القرار، لأنه يضعهم أما ضمائرهم التي لا يحبون مواجهتها رعاية لمصالحهم. [5] ذكر ذلك في معرض حديثه عن 11 إيلول [6] الأمر الذي تجلى بشكل كارثي في الحروب الغربية الأخيرة بدءا بالافغان وانتهاء بلبنان. [7] لقد بدأ البشر يقتربون بشكل حثيث مرغمين تسوقهم عصا التاريخ الغليظة، مما كان حتى وقت قريب اوهام وخيالات.
أس

ليست هناك تعليقات: