الأحد، 13 فبراير 2011

عندما يتحدث المنتحرون عن الانتحار( من وحي وفاة شهيد تونس محمد البوعزيزي)

عندما يتحدث المنتحرون عن الانتحار!!!

(من وحي وفاة الشهيد محمد البوعزيزي وما دار حولها من لغط)

تكشف الوقائع والأحداث أن المثقف في العالم يتخلف وعيه عن تقدم التقانة ومعانيه الفلسفية ومقتضياته الإنسانية، ويتخلف وعيه عن حركة التاريخ وتقدم الاجتماع الإنساني، كما يتخلف وعيه عن تطور الضمير الإنساني، وهذا التخلف هو التفسير الوحيد لحالة التكيّف العام الذي يعيشه المثقف مع المظالم العالمية، والأوضاع السائدة غير الإنسانية، والمشكلات التي تهدد مستقبل البشرية، وتتعارض مع استمرار الحياة على هذا الكوكب.

إن هذه المظالم والأوضاع والمشكلات نشأت في مجملها لأن العالم يقاد ويحكم استنادا إلى فلسفات غير إنسانية، متخلفة عن متطلبات العصر، عاجزة عن تأمين مقتضيات اللحظة الإنسانية الراهنة.

ويبلغ تخلف المثقف مداه عندما يتعلق الأمر بالمثقف الديني الذي يمكن النظر للبابا الحالي كنموذج ومثال عليه، والذي صرح في مناسبات كثيرة تصريحات تنتمي لحقبة ما قبل اكتشاف كروية الأرض ورأس الرجاء الصالح ودخول العالم الحديث على أحسن تقدير.

وتبدو هذه المفارقة أكثر وضوحا في السياق العربي الإسلامي، حيث يعجز المثقف العلماني (النزيه) عن الاتصال الفعال مع الجماهير التي يحمل همومها ويعاني من أجلها، ويقبع المثقف الديني ( النزيه) في قاع الماضي، يتحدث بلغته وينظّر ويقارب الأوضاع من خلاله، تجلت هذه الحقيقة بكل الوضوح الممكن في الإنجاز الذي سجله المواطنون التونسيون قبل أسبوع، حيث أرهق التقدم الحثيث للشعب التونسي مثقفيه، ولما وصلوا إلى باب القصر الرئاسي أو قربه كانت قد خارت منهم كل عزيمة، وانقطع فيهم كل نفس، فارتموا على أعتاب قصر السلطة، ولم يجدوا إلا اقتسام الغنائم مع بقية مرتزقة النظام، واعتبروها بداية طيبة وضربة موفقة، وغنيمة ترضي الطموح، لكن المفاجأة كانت عندما نزل الشعب إلى الشارع احتجاجا على هذه القسمة الضيزى، والثمن البخس لدماء شهدائه، وعندها أحس المثقفون أنهم خانوا دماء الشهداء بطريقة فضائحية، فتراجعوا عما كانوا قد شرعوا به من قبل، وكان النقابيون أشد جرأة، فأعلنوا عن توبتهم بالانسحاب من الميدان السياسي( كقوة حكم) مرة واحدة، فيما لم يتمكن مثقفون آخرون يسيل لعابهم لمنصب مهما كان وزنه من اتخاذ خطوة بنفس المستوى.

وكانت الفضيحة أبعد غورا عندما بدأ خزنة الجنة ووكلاء النار وبائعو صكوك الغفران في تحديد الجزء المقسوم لكل منهما فيما تمخضت عنه الأحداث في تونس، فصادر سادن طاغية تونس على ميتة البوعزيزي معلنا أنها مخالفة للمواصفات والمقاييس المعتبرة لسكان الجنة الذين يعرفهم، (ربما كان يتحدث عن حمامات الطاغية )، وحتى يرفع خسيسته عند سيده أفتى بعدم جواز الصلاة عليه حتى يعتبر غيره فلا يتجرأ على العصيان وتعكير الأجواء وإقلاق النوم العام، وسنده في ذلك ما هو معروف من حرمة الانتحار وعدم جواز الصلاة على المنتحر، ولم يتحفنا هؤلاء بمعنى الانتحار ولم ينتبهوا قط إلى ما يفعله الطاغية، ولا إلى ما يفعلونه في خدمة الطاغية، فإذا كان بوعزيزي قد قام بما يخالف (الشرع)، فهل كان طاغية تونس شرعيا؟ وأين كان علم المفتي؟ بل نقول هل كان للشرع حكم مما كان يفعله الطاغية؟ وإذا كان له مثل ذلك فلماذا لم يعلنوه مرة واحدة؟ إذا كان الانتحار محرما لأن الحياة هبة من الله، أليس انتحارا ولكن بطريقة أخرى نذر هذه الهبة لخدمة الطغاة وتلميع صورهم وشهادة الزور لهم؟ لقد أودى أبو عزيزي بحياته بالطريقة التي تعرفون، لكن هؤلاء الذين يمضون أعمارهم في خدمة الطاغية أليسوا منتحرين من نوع آخر، بل أقول هل يمكن أن نقارن بين ميتة تهب الحياة لتونس، وحيوات تميت ملايين البشر في شرق العالم وغربه؟ آلا ساء ما يحكمون!

إذا كانت وفاة البوعزيزي غير شرعية! فمما لا شك فيه يا سادتي أن حياتكم غير شرعية، وكيف يمكن أن تختم حياة فيها كل هذا الزور والبهتان والسحت والذلة بوفاة (شرعية)، لقد عاش البوعزيزي يكد ويجتهد في السعي على عائلته، ليجبر فقرهم ويستر عريهم ويصون عرضهم، ولا شك أنها حياة كريمة مقبولة بمقاييس الشرع أي أنها (شرعية).

لقد كانت حياته حياة لذويه، وكانت وفاته حياة لتونس، فأي بركة كان هذا الشاب على أهله وبلده بل وأمته؟

أما أنتم يا سادتي فكيف تعيشون؟ وماذا تصنعون؟ أنتم تطوفون حول الصنم، وتقومون بدور سحرة المعبد، وتلّبسون على الناس، وتتبرعون بشهادة الزور وتعيشون على السحت الذي يجود به الطاغية من عرق الفقراء، فهل هذه الممارسات (شرعية)؟ فأي بلاء وأي نكبة على الأمة أنتم وحياتكم؟

من غير شك أنكم دون البوعزيزي في محياكم ومماتكم!

إن العقول الميتة لا تستطيع أن ترقب الحياة وتلاحظها وهي تتولد من ثنايا الموت، وتخرج من ثنايا الغيب، وهي أعجز من أن تلاحظ وترقب الحياة التي فجرها في دماء التونسيين موت البوعزيزي، أنتم يا سادتي تعيشون هذه الحياة الذليلة في خدمة الطاغية خوفا على المكانة والجاه والسلطان والثروة والحياة، وبوعزيزي جاد بحياته كي يهب حياة لتونس ولشعب تونس، فأية ميتة مات محمد بوعزيزي وأية حياة (تحيون)، إن كنتم أحياء حقا؟

لقد طلب أمثلهم طريقة من ربه أن يغفر للبوعزيزي طريقته التي اختارها للموت، وأنا أسأل الله له ولأمثاله أن يغفر لهم طريقتهم في الحياة!

وقال آخر أنه يفتي بحرمة الموت بهذه الطريقة، وأنا أفتي بحرمة أن يتصدى أمثال هؤلاء للإفتاء وتوجيه الجمهور وبحث القضايا العامة لأنهم في كل مرة لا يفقهون، ولم ينطقوا يوما إلا عن فضيحة، وهم في جل ما يقولونه صدى باهت للطاغية، وصورة ممقوتة لشاهد الزور، وحضور ميت في حياة الأمة، وليس أدل على ذلك من مقاطعة الأزهر لحوار الفاتيكان! إن الناس يا مشايخنا (الكرام) يعلمون أنكم لم تحاوروا البابا لأنه محب للسلام ولم تقاطعوه لأنه أهان الإسلام، إنها رغبة فرعون ومشورة هامان! والاسلام يبرأ إلى لله منكم أنكم لم تنصروه يوما، ولم تشهدوا من أجله لحظة، وإلا لتوجب عليكم أن تذكروا شهيد تحقيق تفجيرات الكنيسة شهيد الإسكندرية الذي قضى تحت التعذيب في أقبية (أمن) الفرعون, المرحوم سيد بلال!

لقد تحدثتم عن ضوابط شرعية للاحتجاج، ولكم تمنيت أن أرى احتجاجاتكم وأتعلم الضوابط الشرعية التي عنها تتحدثون!

هل الطواف بقصر الفرعون احتجاج بالضوابط؟ هل العمل بدوام كامل كشاهد زور كلما أمر الفرعون احتجاج بالضوابط؟ هل العمل كوكيل للدفاع عن الطاغية ومسالكه، وتجاهل الواقع وآلام الناس ومبادئ القرآن احتجاج بالضوابط؟ لماذا تثيرنا وفاة البوعزيزي ولا تثيرنا آلاف الوفيات والحيوات التي يصادرها الفرعون في سجونه؟ مسكين هذا الشرع كم نفتري عليه! ومسكينة كلمة شرعي كم مسخت وظلمت وكم استخدمت بطرق غير شرعية!

يا من تتحدثون عن الضوابط الشرعية في ميتة محمد بوعزيزي أرجوكم كفوا عن الافتراء على الشرع، أين كانت هذه الضوابط عندما احترق غير بلد في العالم الإسلامي؟ لماذا لديكم ضوابط للضحايا والمقتولين وليس لديكم ضوابط للفراعنة والقتلة والجلادين؟

أين كانت هذه الضوابط عندما تورط في العنف شباب متحمس، فاحترقت بلدان بأكملها وصودر مستقبل أجيال في قبضة الطاغية بحجة العنف؟

أين كانت هذه الضوابط من شباب القاعدة المخلصين؟ الذين أربكوا عيش الناس في العالم وشوهوا صورة الإسلام، وصدوا عن سبيله، وفتحوا معركة مع العالم أجمع لأنهم لا يملكون الضوابط الحقيقية بل ربما لأنهم ضحايا هذه الضوابط الشرعية التي تتحدثون عنها!

أيها السادة المتحدثون عن الشرع العالمون بضوابطه الخبيرون ببواطنه أرجوكم أرحموا الشرع وارحموا البلاد والعباد بصمتكم، ففي الحديث: (من كان يؤن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت).

ليست هناك تعليقات: