الخميس، 10 فبراير 2011

العزوف عن السياسة في الوطن العربي مظاهر و أسباب

مشاركة في طاولة مستديرة نشرت في مجلة مقاربات

(عودة السياسة إلى المجتمع، وعودة المجتمع إلى السياسة)

1- أتمنى من الحضور كل حسب وجهة نظره تقديم توصيف مختصر للواقع (العربي عموماً والسوري خصوصاً) السياسي الراهن؟

الجواب:

بحسب تصوري لا توجد سياسة في العالم العربي ولا في سورية، السياسة كعلم ولدت منذ وقت مبكر في تاريخ البشر، فقد كتب أرسطو كتابا في علم السياسة، ولكن أرسطو وإن تحدث عن السياسة كعلم إلا أنه نظّر لمهنة من اختصاص نخبة محدودة، كما يوضح ذلك كتاب الأمير لـ مكيافللي، الذي اختص بكتابه رجلا بعينه من هذه الطبقة، والذي نريد قوله أن السياسة كفكرة وجدت منذ وقت مبكر، لكن هذه الفكرة لم توضع في الاستخدام العام، ولم تتحول السياسة إلى ممارسة عامة وعمل شعبي يقوم به الجمهور إلا في الآونة الأخيرة، لقد ولدت السياسة كما نعرفها اليوم مع الحداثة الغربية، وكانت الثورة الفرنسية منارة من مناراتها، وفي الحداثة الغربية اكتشف الناس أنفسهم، واكتشفوا أن النخب التي لها الأمر والحكم لا تفوقهم في شيء، ولا يجري في عروقها دم أزرق، وليس لها صلة بالمتعالي أو نسبا له، لقد اكتشف البشر في الحداثة الغربية العقل الإنساني، ووضعوه موضع الممارسة، وأخذوا يعبرون عن آرائهم فيما يحدث لهم وما يدور حولهم، وهكذا ولدت السياسة ككمارسة جماهيرية وبدأت بالنمو، وبلغت تجليها الكبير في شكلها التنظيمي المعروف بالديمقراطية، والديمقراطية إلى الإن ليست مخلوقا مكتملا، وليست عملا ناجزا، فما زالت النخب - في أعرق البلدان ديمقراطية - تجير مصالح الأمة وإمكاناتها، لخدمة مصالحها الخاصة الضيقة، ولذلك نشهد نوعا من العزوف عن السياسة في الديمقراطيات العريقة كما في بريطانيا، تفضحه نسبة المشاركات المتدنية في معظم الديمقراطيات الغربية،لكن هذه العيوب لا تقلل من قيمة الديمقراطية ولا تهون من شأنها، ولا تجعل الوضع السياسي في العالم الغربي، مدانا أو حتى يمكن مقارنته بالوضع السياسي في العالم العربي، فنحن في العالم العربي لم نعرف السياسة بمفهومها الحديث بعد، لأننا إلى الآن لم نكتشف العقل الإنساني ولم يولد عندنا الإنسان، والعقل العربي أداة غير موضوعة في الخدمة، وهي مقيدة بالمحرمات والممنوعات في الدين والسياسة، ولذلك نلاحظ نوعا من الاعاقة والشلل في إدارة الشأن العام، وتزمن القضايا، وتجدب الحياة العامة، وتسير الأوطان مسيرة تراجعية، ويتغنى الجميع بالتاريخ وأمجاد الماضي، وتزدهر السلفية في صورة عبادة الماضي وتقديسه، في اعتراف صريح بعقم الحاضر والعجز عن الانجاز، واليأس من مقاربة الواقع مقاربة حية مجدية، حتى أن المفكر الجزائري مالك بن نبي كتب ما معناه : أننا منذ خمسين عاما نسير مبتعدين عن الأهداف التي أعلناها عشية الاستقلال من ربقة الاستعمار، فالأمل بالوحدة أصبح أبعد منالا، والاستقلال المنجز لم يتم الحفاظ عليه ولم يكن تطويره ممكنا، ورأيتنا بعد خمسين عاما نستدعي المستعمر الذي طردناه من قبل كما حدث في العراق، والحديث عن الحرية أسفر عن عالم واسع يمتد من المحيط إلى الخليج محكوم بالقوانين الاستثنائية، وتحولت الاشتراكية إلى حكومة أوليغاركية من أشد أنواع الحكومات فسادا في التاريخ، وهذه الصورة تدمغ الوطن العربي بجميع نظم الحكم فيه، دون أن ننكر أمكانية وجود تفاوتات ملمترية بين أقطاره المختلفة، وما زال المواطن العربي محجورا عليه ممارسة السياسة في ما يشبه الحجر القانوني على السفهاء وفاقدي الأهلية القانونية والشرعية، حتى أن عالمنا الثقافي والسياسي، تحكمه مسلمة يؤمن بها جميع المواطنين إيمانهم بالله أو أشد من ذلك، وهي مقولة (نحن لا نتدخل في السياسة)، وكأنها رجس من عمل الشيطان، وتسود هذه المسلمة، حتى في المؤسسات التي تشتغل في السياسة، كالأحزاب والنقابات، حيث أدمنت هذه المؤسسات المسخ على أن تكون مؤسسات استلاب وهي تعمل باتجاه واحد فقط، من أعلى إلى أسفل، حيث يردد الجميع مرعوبين ما يقال لهم، دون أن يملكوا أدنى رغبة أو قدرة على الاجتهاد أو التفكير، أو المراجعة أو حتى الاستفسار، وكأن الكائنات الآدمية تحولت إلى آلات تسجيل فقط، ويمكن قراءة ذلك بوضوح في ملامح المدافعين عن النظم العربية في الفضائيات!

في الواقع إلى الآن نحن لم ندخل في الحداثة، حتى يمكن أن ندخل في السياسة، لأن السياسة كما أشرنا هي بنت الحداثة، ولا بد من الإشارة إلى أن زمن النبي محمد، شهد محاولات لتدشين السياسة كممارسة جماهيرية، رغم وجود النبي والوحي، والحوادث عديدة ومشهورة، وفي تصوري أن هذا مبرر ومشروع لأن القرآن شكل حينها حداثة كبيرة، فهو يلح على العقل ألحاحا منقطع النظير، ويؤكد المسؤلية الإنسانية في صناعة التاريخ، لكن الأحداث التي تلت عهد النبوة وعهد الراشدين، أعادت القيمة للقوة، فتحولت الخلافة الراشدة إلى امبراطورية قومية على يد الأمويين، وأعيدت السياسة كي تصبح من اختصاص النخب أو بحسب مصطلح فقهاء السلطان الذي جيروا القرآن لخدمة السلطان(أولي الأمر)، وتم القفز على الرأي العام وتجاوزه، وأصبحت الممالك تدار كما تدار الآن، على طريقة المزارع الخاصة، حيث هناك بعض الموظفين التكنوقراط، الامتثاليين في المواقع التنفيذية الصغرى، يسهرون على تنفيذ مقتضيات الإرادة (السامية المتعالية) غير القابلة للنقاش والمراجعة، وجموع من الدهماء يخضعون لهذه الإرادة، وليس لهم من حق سوى السمع والطاعة، رغم أنهم يدفعون الأثمان الكارثية للسياسة الناتجة عن هذه الإرادة (السامية).

2- العزوف عن السياسة ظاهرة متفق عليها بين معظم المهتمين بالشأن السياسي السوري، متى بدأت هذه الظاهرة برأيكم؟

الجواب :

أرجو أن تقبلوا تسجيل تحفظي على صيغة هذا السؤال، إن ما يوجد عندنا في الواقع العربي أو في الواقع السوري، ليس هو عزوف عن السياسة، إنما هو انعدام للحالة السياسية، وهذا ما حاولت قوله في إجابتي على السؤال الأول، إن لفظ عزوف عن العمل السياسي يصلح لتوصيف الوضع في بلدان عاشت الحالة السياسية كما هو حال البلدان الأوربية، حيث يشاهد فيها اليوم نوع من العزوف عن المشاركة السياسية، تفصح عنه نسبة المشاركة المتدنية في العملية الانتخابية، كما ألمحت إليه في جوابي عن السؤال الأول، أما عندنا فالوضع محتلف تماما.

أن الحالة السياسية لم تولد في مجتمعاتنا، حتى نقول أن المجتمعات قد عزفت اليوم عن المشاركة السياسة، ربما أفرزت حرب الاستقلال التي صنعتها الجماهير نوعا من الإحساس غير الواعي بدور الجماهير وتأثيرها في الحالة العامة، لكن النخب السياسية والعسكرية التي أدارت البلاد بعد رحيل المستعمر، لم تتصرف بالتركة الاستعمارية حتى لا نقول الموارد الوطنية بطريقة مسؤولة، فحتى المؤسسات التي ورثناها عن المستعمر بدل أن تطور لتخدم الكل الوطني، تم تدميرها لتصبح مؤسسات ميتة كالمستحاثات التاريخية، ليس لها من وظيفة إلا تأمين شرعية منقوصة للمستبد! لقد ورثّنا المستعمر جميع مؤسسات الدولة، ورثنا القضاء، والجامعة، والبرلمان، و مؤسسات العمل السياسي كالأحزاب والتشكيلات النقابية والأندية والاتحادات، لكن لم نتمكن من المحافظة على هذه المؤسسات ناهيك عن تطويرها، ولذلك أنا أقول في السياسة خلاف ما يقوله الدكتور عبد العزيز، السياسة كما أتصور فعل ثقافي بالدرجة الأولى، والحالة السياسية هي وليد شرعي للحالة الثقافية، والإنسان الذي لا يعي إنسانيته، لا يعرف ماله من حقوق ولا ما عليه من واجبات، لن يفلح في تحصيل حقوقه، ولن يتمكن من إنجاز واجباته.

والمواطنة كما أفهمها هي نظام من الواجبات والحقوق، بغير ذلك يضيع معنى المواطنة، ومن ثم يضيع معنى الوطن، كما هو حاصل الآن في واقعنا، لذلك أعيد وأكرر أن الحالة السياسية لم تولد في مجتمعاتنا، ربما بعد خروج المستعمر حدث شيء وهو ما يلمح إليه الأخوة، على اعتبار أنه حالة سياسية! لكنه من وجهة نظري شيء يشبه تماما ما يحدث في أحد الصفوف المدرسية، حيث يحافظ الصف على انضباطه حتى بعد مغادرة المعلم الصف، ولكن ليس لوقت طويل، هذا لا أستطيع أن أسلم أنه حالة سياسية واعية، ولو كانت الحياة السياسية قد بدأت عندنا لما أمكن لها أن تنطفيء بهذه الطريقة، ليس لدي دراسة دقيقة للواقع السياسي، لسوريا قبل الحكم العسكري، الذي دشنه الجنرالات، لكن من معلوماتي القليلة أذكر أن الحزبين الأكثر شعبية في تلك الفترة، والذين تداولا السلطة بعد الاستقلال (حزب الشعب والحزب الوطني) كانا تجمعين إقليميين إلى حد بعيد، (واحد للحلبية وآخر للشوام)، والبعثيون القوميون لم يبلغوا الأربعة آلاف حتى الانقلاب العسكري في الثامن من آذار، ربما تمكن عبد الناصر بمهاراته الخطابية، ومواقفه الشعبوية التي لعبت بعواطف الجماهير الملتهبة بتأثير ملابسات الاستقلال، والاستشارات التي كان يقدمها ساحر الملك محمد حسنين هيكل من اكتساب شعبية كبيرة بين الجماهير، لكنه بكل أسف ومراراة وظف ذلك في إلغاء السياسة في مصر وبعد ذلك في سوريا، وتدشين حكم الطغاة والمستبدين في فترة ما بعد الاستقلال، فتحول ممثل الشعب في البرلمان الذي أصبح مجلس شعب إلى شاهد زور لا يملك إلا حق الموافقة، وأصبحت هذه المؤسسة كما هي اليوم، مخلوق طفيلي ليس له وظيفة أكثر من ديكور شكلي لا يتدخل في الحياة العامة من قريب أو بعيد إلا إذا أوحى إليه الطاغية بذلك كما شاهدنا في البرلمان العراقي بعد احتلال الكويت، وتم السطو على الجامعة والجامع ليتحولا إلى شاهدي زور بلا شكر ولا أجر للاستبداد، فيما سمي يومها زورا باصلاح التعليم، وكذلك حدث في مؤسسة القضاء وسلطة القضاء، فقد شهدت مصر مثلما شهدت باقي الدولة العربية تحطيم هذا الإرث الاستعماري فتم في مصر العبث بمؤسسة القضاء، فيا يسميه الأخوة في مصر بمذبحة القضاء، هذه المذبحة التي حدثت مثلها مذابح للقضاء في كل بلد ورث نظاما قضائيا من عهد الاستعمار،

ولعلكم تابعتم ما يحدث الآن في باكستان من صراع بين الطاغية والقاضي، بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة القضائية، بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، بين القوة والقانون، بين شودري وبين مشرّف، إن المؤسسة العريقة التي تدعم شودري - هي في الواقع - وريثة التقليد الانجلو ساكسوني العريق في القضاء، والدكتاتور الذي هو منتج الثقافة المحلية، يحاول أن يتخلص من آخر بقايا الإرث الاستعماري، ليتحول إلى حاكم بأمر الله، وهذا المعركة حدثت في كل البلاد العربية وحسمت لصالح الطاغية، فقد ابتلعت السلطة التنفيذية كل السلطات أو كما يقولون أستولت السلطة على الدولة والمجتمع! ماذا بقي من الجمهوريات في العالم العربي، لم يبق منها إلا الاسم، ولم يعد للجمهور مكان في الجمهوريات، في الحقيقة لا توجد جمهوريات في العالم العربي، الذي يوجد في العالم العربي، هو نوع من حكم المماليك التاريخي يتجدد الآن، أنا أسميه حكم المماليك الجدد، في الواقع النموذج الملكي العربي المطلق السلطات هو امتداد طبيعي لنموذج الخليفة المطلق السلطات القديم، أما الحاكم العسكري الجديد الذي يستولي على الحكم بقوة الجيش ويحافظ عليه بقوة العسكر والمخابرات فهو النموذج الجديد المعاصر من حكم المماليك التاريخي المعروف.

فنحن في العالم العربي لم نتمكن من صناعة عالم ثقافي ينتج حالة سياسية، تفرز بدورها سلطة تؤمن بالسياسة أو تفهم السياسة أو تعرف التنافس السياسي، وكل القوانين مثلاً حتى الدستور في سورية مثلا، الدستور الذي وضعه الجنرالات الانقلابيون أنفسهم، لم يوضع موضع التطبيق وما زال معلقا لصالح الأحكام العرفية حتى تاريخه، ورغم أن كل من يقرأ هذا الدستور يشعر أن دستور الجمهورية نكوص عن دستور حزب البعث، الذي وضعه المثقفون قبل أن يتورطو بالتحالف مع قوة الجيش التي كانوا أول ضحاياها، فالدستور الذي وضعه المثقفون البعثيون، له آفاق إنسانية، وفكرية، وسياسية واجتماعية أرحب كثيرا من دستور الجمهورية، و يمكن أن نستشف بيسر أن دستور الجمهورية صُمم لصناعة الاستبداد، فقد تم تحجيم جميع السلطات لمصلحة رأس السلطة التنفيذية، الذي أعطي صلاحيات لا مثيل لها، وحتى هذا الدستور الذي فصل على القياس ورغم قابليته للقص واللصق والحذف والاضافة كلما دعت حاجة النخب، ورغم ذلك لم يعط الفرصة كي يوضع في التنفيذ، لقد عجزت النخبة العسكرية التي فصلته ومواده بما يلائم وضعها ويلبي احتياجاتها، لم تتمكن من وضعه في الممارسة العملية، وفيما يتعلق بمنظمات المجتمع المدني والأحزاب، أعتقد أنه لا توجد فعلاً مثل هذه المؤسسات عندنا، وإن وجدت أجسامها، حتى أعرق الأحزاب وأكثرها (تقدمية) في لحظة من اللحظات، الحزب الشيوعي السوري....................

ناصر الغزالي مقاطعا:

أنا قصدي دكتور محمد ليس إذا موجود أو غير موجود.

كيف تلعب هذه الأحزاب إن وجدت أو منظمات المجتمع المدني والأهلي في تفعيل العمل السياسي أو إقناع المواطن بعودته للسياسة؟

دكتور محمد:

أنا بتصوري هذا متوقف على وعي المؤسسات والقائمين عليها لمعنى المواطنة ودورهم كمواطنين، وموقعهم في الوطن، هذا الفهم وحده هو القادر على أن يحدد الآفاق التي يتطلعون إليها، ويمّكنهم من القيام بواجباتهم، وممارسة أدوارهم، يجب أن يفهم المواطن أن معنى المواطنة يعطيه حقوقا أصيلة، فوجوده في بلده، ليس نوعا من اللجوء، و ما يحصل عليه من حقوق ليس منحة ولا مكرمة، يجب أن يفهم الجميع أن الدستور رغم تحفظنا على بعض مواده، يعطي الجميع حقوقا متساوية، من أبسط إنسان إلى رئيس الجمهورية، فمعنى الجمهورية: نظام الحكم الذي يقدر الجماهير ويقدس مصالحهم، الجمهورية هي دولة الجمهور الحر، وليست دولة النخب والأمن والمواطن المقموع المرعوب الذي يمشي الحيط الحيط ويقول يا ربي الستر، يجب أن نملأ هذه الكلمة الخاوية بالمعنى، وذلك عبر الممارسة، وليس مجرد الحديث، يجب أن يفهم المواطن العربي أن السلطة ليست مصدر الشرعية، بل هي تحتاج منه أن يمنحها الشرعية، ولذلك عليه أن يكون له موقف غير النفاق والاستخذاء، في كل مرة يطلب منه رأي، وهذا يحتاج لوعي دستوري حقوقي مختلف غير متوفر في واقعنا الحالي، ولذلك أقول: علينا أن ننتج حالة ثقافية تنتج الحالة السياسية التي نرغب فيها، قرأت في الجزيرة نت أن منظمات حقوق الإنسان في مصر رغم الأجواء الخانقة التي تعمل فيها تمكنت من أن تجعل ثقافة حقوق الإنسان، أو مصطلح حقوق الإنسان، أكثر المصطلحات شعبية في مصر، وهي خطوة باتجاه انجاز ثقافة يمكن أن تنتج حالة سياسية، وهذا أفق مختلف عمن يعيش عهد مكرمات السلطان وعطاياه، وإن كنت في جميع الأحوال أحب أن نعمل على إنتاج ثقافة تقدس وتعظم واجبات الإنسان، أكثر مما تقدس حقوقه، لأننا في لحظة بناء ، ولحظات البناء تحتاج للبذل التضحية والعطاء، وليس للأستحواذ والمحاصصة كما حدث في بعض مؤسسات المعارضة، وكما حدث في فلسطين والعراق، حيث يضيع الوطن تحت وطأة الامتيازات الفصائلية والشخصية!

هذا تعقيب

الدكتور محمد:

أرجو أن تقبلوا تحفظي الشديد على أننا مارسنا السياسة أو عشنا حالة سياسية، أعيد وأكرر وأنا متمسك بهذا الموقف، نحن لم نمارسن السياسة بل نحن لم نذق طعم السياسة ولم نرح رائحتها، البعثيون أكثر من مارس (السياسة) في المنطقة! وكيف مارسوها؟ وصلوا إلى القصر الجمهوري بالدبابة، وتحدوا على لسان وزير الدفاع السابق أن يخرجهم أحد من القصر بالدبابة! هذه ليست سياسة، وجميع الفرقاء كانت لهم نفس الطموحات ونفس الخطط، لكن ميزة البعثيين أنهم سبقوا فما لحقهم أحد، هذه ليست سياسة إطلاقاً، وليست سياسة أن نؤسس أحزابا لها أذرع عسكرية، ربما لم تكن حالة الجميع، ولكنها حالة الغالبية، ومن لم يشكل جناح عسكري فلعجزه ونقص موارده، وليس لوضوح في الرؤية والقدرة النظرية والعملية على الفصل بين العنف والسياسة، كل من يؤمن أن الحكم يمكن صناعته بالقوة لم يشم رائحة السياسة ولن يشمها أيضا، وعندما تصل بالعسكر إلى الحكم، لن تستطيع الاحتفاظ بالحكم من غير العسكر، وعندها ستصبح أسيرهم وأسير قوتهم، فالحراب كما يقول توينبي (لا تصلح أن نجلس عليها)، وهذه الحالة ليست سياسة بل إلغاء للسياسة وتكريس لغيابها لمصلحة العنف، مصطلح سياسة في اللغة مصطلح فني أقرب إلى الجهد العقلي منه إلى الجهد العضلي، لكننا إلى الآن لم نتمكن من صناعة مناخ عقلي يسمح لنا بالمراجعة وإعادة النظر، والتطلع إلى آفاق جديدة في العمل الوطني، ما زلنا مسكونين بآلام الماضي وأثمان العنف الذي لم تكن السلطة المتورط الوحيد فيها، وإن تكن قد مارست أسوأه، وأستغلت الأوضاع لتبطش بالجميع، لكن علينا أن نعترف أننا لم نتمكن من صناعة مناخ نظيف ينتج السياسة ويقصي العنف والعسكر.

لقد تنفست السلطة الصعداء لما حولنا ساحة العمل السياسي إلى ساحة حرب، فهي التي تمتلك السلاح الشرعي الحيد، وتمتلك الجيش المدرب والمؤسسات والموارد، وجميع ذلك وضع في خدمة النظم، بحجة الدفاع عن الوطن، وتركت حدود الوطن وأجواءه هملا مشاعا، ونحن جميعا شاركنا في صناعة هذه الحالة غير الوطنية عندما قدمنا للنظم، كل الحجج والمبررات، في غير مكان من وطننا العربي الكبير.

3- إلى ماذا يٌعزى هذا العزوف بنظركم؟

أ- على مستوى السلطة ومؤسساتها كقوة حاكمة، والدستور والقوانين الناظمة للمشاركة السياسية.

ب – الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني و الأهلي.

أولا

أحب أن أذكر بتحفظي على مصطلح عزوف، وأنه توصيف غير دقيق لأنعدام الحياة السياسية في مجتمعات لم تولد فيها السياسة، ولم تبدأ فيها حالة سياسية، حتى نتحدث عن عزوف عن السياسة فيها.

أ – وإجابة على سؤالكم أقول : إن انعدام السياسة على مستوى السلطة ومؤسساتها يرجع إلى طبيعة السلطة، فهي في العمق سلطة غير سياسية كما أسلفنا، وهي لا تستمد شرعيتها من توافقات سياسية معينة قابلة للزحزحة والتفاوض والتغيير، بل من احتكارها المطلق للقوة، وهذا الموضوع الذي لا يتحدث عنه أحد ممارس ومعاش في العمق وهو يسكننا جميعا، السلطة في الحكم فقط كاستحقاق لأستحواذها على القوة التي لا قبل لأحد في الداخل بها، فهي لا تعيش حالة سياسة بل حالة سيطرة محروسة بالقوة، ولا شرعية لها إلا الشرعية التي تحدث عنها الليث بن يعقوب الصفار في التاريخ[1]، ولذلك تسير الأمور في كل البلدان العربية باتجاه وحيد، من أعلى إلى أسفل، وفي كل قطر شمس تمد الجميع بالخير والنور والدفء والعطاء والبركة، كالآلهه لا يسأل عما يفعل، لا مبدل لكلماته، ولا راد لحكمه، ولا معقب لأمره، وليس له كفوا أحد، ولا يمكن أن يذكر اسمه إلا ممدوحا منزها مبجلا، وكل من يدخل حقل (السياسة) يدخلها بالمديح والثناء والتقرب باسمه وذكره زلفى، ويستمر إن استمر بالامتثال والولاء المطلق، وهذا الموضوع ترسخه كل المؤسسات أو الاجسام المؤسسية بلغة أدق، بما فيها الجامع والجامعة، فجميعها تتعاضد لاثبات شرعية تستعصي على الشرعنة، وهذه البنية مغلقة من الناحية العملية على أقلية قليلة تعد على رؤوس الأصابع، القاسم المشترك بينها القرابة القريبة، وهي مغلقة من الناحية النظرية ببعض الاعتبارات القانونية كالمادة الثامنة في الدستور السوري، وبعض القوانين والاعراف القبلية في الممالك والإمارات، فالنخبة التي تحتكر القوة، تحتكر البلد وسياسة البلد الداخلية والخارجية، وتتصرف بحرية واعتباط مطلقين، ولذلك تنتكس الأوضاع في كل البلدان العربية بمرور الوقت، وكأننا نسير للوراء كما قدمنا، والقوانين التي تنظم الحياة السياسية أما غير موجودة كما في سوريا، حيث يعيش الجميع بسياسة غير النظر، ويعمل الجميع تحت سقف الرقيب ورهن رضاه، أو في غفلة عن عينيه، أو يتم تفصيل القوانين وتثقيلها بالشروط التي تبقي على تمثيلية سياسية تحافظ على الوضع القائم، وتضمن عدم ولادة منافس سياسي حقيقي للنظام كما في مصر وأكثر من بلد عربي.

ب – فيما يتعلق بالأحزاب والمنظمات، فالاحزاب (الشرعية) تعيش على هامش الحياة، وهي في معظم البلدان التي فيها نوع من الحياة السياسية، تعيش في عزلة عن الشارع، للحفاظ على الشرعية التي يمنحها النظام كما في أحزاب الجبهة في وسوريا وبعض المستحاثات الحزبية في مصر، وكل حزب يمكن أن يشكل تحديا حقيقيا يمكن أن يجري له ما جرى لحزب العمل في مصر، وتمنع كل القوى الحية الفاعلة من المشاركة في الحياة السياسية، بمختلف الذرائع، كما في حظر الإخوان المسلمين في مصر، أو القانون تسع وأربعين لعام الثمانين في سورية، وفيما يتعلق بمنظمات المجتمع المدني فهي منظمات وليدة لم يشتد عودها، وهي في الغالب تعمل في ظل انعدام الشرعية القانوية، فمعظمها إن لم يكن جميعها لم تتمكن من الحصول على الغطاء القانوني من خلال الترخيص كما في سوريا، وحتى المرخصة والتي اكتسبت نوعا من الشرعية ليس من الصعب تجريمها عندما يشعر النظام بأنها بدأت تشوش عليه أوتسسب له نوعا من الحرج كما حدث مع رئيس مركز ابن خلدون في مصر، ذلك أنه في ظل الفوضى القانونية وتداخل السلطات يدخل نشطاء حقوق الإنسان المعركة مثل الانتحاريين، مجردين من أي دعم رسمي أو شعبي فالجمهور في العالم العربي مثل جمهور الحسين في كربلاء بحسب ماعبر عنه الفرزدق حين قال للحسين (ودعك الله من شهيد، قلوب الناس معك وسيوفهم عليك) وحتى أكبر الحلفاء يمكن أن يقدمهم كقرابين على مذبح بعض المكاسب التي يمكن أن يحققها كما حدث لمدير المركز الأوربي لحقوق الإنسان في سوريا.

4 – ماهو الدور الذي يلعبه الاقتصاد في ظاهرة العزوف عن السياسة أو المشاركة السياسية؟

الدكتور محمد:

لاشك أن الاقتصاد له دور حيوي في حياة البشر، لكن ربما ليس للدرجة التي ذهب إليها البعض، عندما أعدموا أبعاد الإنسان الأخرى لصالح البعد الاقتصادي، ليصبح الإنسان مخلوقا وحيد البعد أو حيوان اقتصادي، لكن لا شك أن للاقتصاد دور مهم، لو عملنا مسح للناشطين في الحقل السياسي لن نجد أنهم من الطبقات المشبعة أو المترفة (الطبقات العليا)، كما أنهم لن يكونوا من الفقراء المعدمين في الغالب وإن وجد بينهم الفقراء، و سيكونون غالباً من الطبقات الوسطى، إذ يبدو أن إشباع الإنسان إلى حدود كبيرة يفسده، وربما يعرقل تطوره الإنساني، ولا يعود يفكر في آفاق أعلى من عالم الأشياء، وكأنه يستغرق أو يغرق فيها، كما هو حال المجتمعات الاستهلاكية اليوم، حيث يسيطر هاجس الاستحواذ والتملك والجديد على الناس، لكن إفقار الإنسان بحيث يستهلك جهده اليومي في تأمين حاجاته الأساسية في المأكل والمشرب والملبس يشله ويعيق نموه الإنساني أيضا، والحالة التي ترتبط بدور إيجابي للاقتصاد في الحياة، هي حالة إنسان الطبقة الوسطى، الذي تحرر في سعيه اليومي من سيطرة الحاجات الأساسية، ولم يبلغ عالم الأِشياء عنده درجة الاغراق التي تشله وتقعده عن السعي، والذي يحدوه الأمل بأن عالمه غير مستنفذ بل هو قابل للتنمية والتطوير.

وفي الواقع فقد كانت الحالة الاقتصادية التي ارتبطت بتحرر الفرد من سعيه اليومي لتأمين احتياجاته الأساسية، منطلقا لدخول الإنسان عالمه الحق، عالم الآمال والأشواق، عالم النظر في السماء والتأمل في الأرض، فقد كان اكتشاف الزراعة وتمكن الإنسان من تأمين مصدر مستقر لهذه الحاجات، بداية دخول الإنسان عهد الإنسان، عهد المجتمع والحضارة.

إن العمل العام يحتاج الوقت والجهد، ويكون الوقت والجهد المطلوب أكبر في المجتمعات الناشئة، لكن هذه الجهود مقيدة بمخاطر العمل العام وضريبته، وهذا ربما يشكل قيدا يعيق الكثيرين عن الانخراط في الحياة العامة، فقد أرسلت إلي إحدى الأخوات بريدا ألكترونيا أشعر أنه يمثل إجابة عميقة الغور على السؤال رغم بساطته المضحكة:

كان هناك خطيب مشهور في مصر(الشيخ عبد الحميد كشك)، وكان ممن يتدخلون في الشأن العام، ويقوم بما يعتقد أنه رسالة المنبر الحقيقية، وكان مصدر صداع دائم للسلطة، فقررت السلطة عزله، فغضب الناس لذلك وقرروا التظاهر للاعراب عن رفضهم للقرار، وفعلا فقد حدثت تظاهرة كبيرة، وتفاجأ المتظاهرون بقدوم سيارات ضخمة تبيع البيض بسعر رمزي جدا، فقال كثير من المواطنين إن هذا البيض رخيص جداً، وهذا لا يمكن أن نحصل عليه كل يوم، غداً يمكن أن نتظاهر فترك قسم كبير من الناس المظاهرة، ليحصلوا على صحن بيض بسعر (لقطة) وهكذا كان، وبعد لحظات حضرت سيارات الأمن المركزي، فانفض الذين اشتروا بيضا حفاظا على صحون البيض أن تتكسر في المواجهات، وذهب سواد المتظاهرين وهكذا انفضت المظاهرة بأهون السبل، فهذه الصورة الكاريكاتورية موجودة بعمق في كل من يفكر في المشاركة في العمل العام في عالمنا. أنا في الواقع كلما قمت وقعدت ورحت وأتيت، كلما أُستدعيت من قبل الأجهزة أو شاركت في نشاط عام، أو عبرت عن رفضى واحتجاجي على واقع معين، لا تغيب عن ذهني صحون البيض خاصتي، واحتمال أن تتعرض للتكسير، فليس أكثر هشاشة من الإنسان ومصالحه، أمام سلطة تملك كل القوة ومطلق الحرية في استخدامها من غير ضوابط. أعتقد أن الجميع لهم مثل هذا الهاجس وأمامهم مثل هذا التحدي وإن اختلفت النسب.

5 – ماهو دور حرية الرأي والتعبير في ظاهرة العزوف عن السياسة أو المشاركة السياسية؟

إن السياسة كما أسلفنا هي وليدة الثقافة، ومن ثم فإن إنجاز حالة سياسية ما، يقتضي منا إنجاز وضع ثقافي يمكن فيه ولادة مناخ يسمح بالتفكير الحر، الذي ينتج الآراء التي يمكن أن توضع في التداول، وإذا كان المناخ الثقافي السائد إلى الآن في المنطقة العربية أسير مقولتي القوة والسلف، فكيف يمكن أن يولد الرأي؟ وما لم يولد الرأي فلن نعرف للحرية معنى، ولذلك قلت وأكرر الآن أن العقل السياسي في المنطقة العربية لم يولد حتى اليوم، وأنه لم يوضع في الخدمة حتى الآن، ما زالت السياسة محكومة بالقوة، وما زال العقل بعيدا عنها، وحيث لا عقل فلا مجال للرأي ولا معنى لحرية الرأي، وما زال العالم الثقافي أسير القراءة القروسطية للنص، محكوما بنموذج السلف، حيث كل الأشياء ذات القيمة قد قيلت وكل ما يمكن أن يقال هو لغو أو في أحسن الأحوال فضول من القول، إن لم تضر فهي لن تنفع شيئا، فما ترك الأول للآخر شيئا، وفي تصوري فإن بحث مشكلة السياسة يتطلب بحث مشكلة الثقافة، وهذا يقتضي أن نضع المثقف في دائرة الاتهام بدل أن نضع السياسي، فالسياسي حفيد المثقف، وإخفاق السياسة في العالم العربي هو وثيقة إدانة للجامع والجامعة، كما يقول الأستاذ جودت سعيد، إن ولادة مثقف حقيقي يأخذ المبادرة، ينحاز للوطن والإنسان، كفيل بكسر الحلقة المعيبة، وعندما نتمكن من صناعة هذا النموذج نكون قد وضعنا حجر الزاوية في صناعة السياسة في المجتمعات العربية، فولادة الحالة السياسية رهن بولادة الرأي الذي يصنع حريته.

6 – ماهو دور الدين، الثقافة، العادات والتقاليد في ظاهرة العزوف عن السياسة؟

كنا قد أجبنا عن طرف من هذا السؤال، في سياق الإجابة عن الأسئلة السابقة، عندما تحدثنا عن علاقة الثقافة بالسياسة، وأضيف أن الدين بالأساس دعوة تحرير وسبيل حرية، وفي اعتقادي كمسلم أن المبادئ القرآنية الكبرى ما زالت راهنة، لكن الذي يحدث في القراءة الشائعة، أن المبادئ الكبرى يتم تجاوزها لصالح أحكام تاريخية صغيرة مهما عظموها، مقارنة بالهدف القرآني الأساسي الذي هو إخراج من شاء من العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، وتحريرهم من التراث، بنزع الآصار والأغلال التي تنسجها البيئة الثقافية التاريخية (المخلدة) حول عقول البشر، لكن وبكل أسف ومرارة فإن الدين بخضوعه للعقل الفقهي، وابتعاده عن روح القرآن يتحول إلى سلطة لا تقبل إلا بالخضوع الكامل، ويتحول التدين إلى حالة من الاستلاب التي لا تليق بالإنسان المكرم، وفي تصوري فإن هذا تدين ضد الدين إن صح التعبير، فهو ينزع آدمية البشرعندما يسد الطريق أمام العقل الإنساني أو يستبعده أو يشكك في مصداقيته، كما أنه يخلق وعيا زائفا عندما يصرف اهتمامات الناس عن إدارة شؤونهم الحياتية اليومية، ليسلط طاقاتهم على تحصيل حياة افتراضية منقطعة عن الواقع المعاش، رغم صراحة القرآن في ارتباطهما، بحيث أن الحياة الدنيا[2] هي مقدمة الأخرى(من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا).

و رغم كل ما قدمناه، لا أعتقد أن الدين عموما والإسلام خصوصا مما يمكن تجاوزه أو تجاهله في بحث المشكلة الإنسانية، أي مشكلة السلطة في هذه المنطقة أو في أي منطقة أخرى من العالم، ولذلك أعتقد أن الاصلاح السياسي في العالم العربي رهن بنوع من الاصلاح الديني، إصلاح ديني لا يقوم على إقصاء الدين وعزله كما في التجربة الغربية التي ثبت فشلها بما لا مجال للشك فيه، حيث بدأ الدين يستعيد حيويته فيها، لكن دون أن تمسه أضواء عصر الأنوار، وهذا يهدد بتقويض كل مكتسبات الانسان المعاصر، وكل منجزات عصر الأنوار، وقد ظهرت هذه الروح في الغزو الامبراطوري الأمريكي الذي ينتهك كل مقدسات عصر الأنوار لصالح فكر ديني متخلف، يدعمه اتجاه فكري تعبر عنه بعض التصريحات التي جاءت على لسان بعض القادة السياسيين والدنيين كما في حديث البابا في جامعة روزنبرغ، أو في حديثه التالي عن الكنيسة الوحيدة الناجية التي هي كنيسته، والتي تثبت أن هذه العقول لم تمسسها فتوح عصر الأنوار.

7 – إن المدخل الرئيسي للحكم الرشيد لأي دولة مرهون بالإرادة السياسية، كيف ومن الجهة التي تملك هذه الإرادة؟

الدكتور محمد:

الإرادة بحسب ما افهم هي الرغبة، ولما نتحدث عن الإرادة السياسية، فنحن نتحدث عن الرغبة السياسية، ولن تتشكل الرغبة أو الإرادة من غير خبرة أو معرفة، فالمعرفة هي التي تصنع الإرادة كما شرح الأستاذ جودت في كتابه العمل قدرة وإرادة، وهذه الخبرة متوفرة الآن بوجود النموذج الشاهد الذي يصلح كوثيقة إدانة لواقعنا المريض، حيث في معظم دول العالم يتم تداول السلطة من غير دماء وآلام، وتكون السياسة وأداتها وهي الحكومة في خدمة المجتمع.

لكن من هي الجهة التي يجب ان يقع عليها عبء المبادرة؟ إن القسمة الضيزى للسلطة والثروة لا يتضرر منها من يمسكون بالسلطة - على الأقل في المدى القريب – وإن كانت على المدى البعيد تنطوي على نتائج كارثية، ربما لا يكون الوضع العراقي أكثر السيناريوهات سوءا، وقد تكون الإعاقة الدائمة والشلل المستمر وما يمكن أن تنشأ عنه من أزمات كما هو في وضعنا الحالي مرشحة للاستمرار، ومن ثم التفاقم والانفتاح على سيناريوهات شديدة الخطورة، إن استقراء الواقع وتطورات الأحداث والازمات المقيمة تدل على أن هذا الوضع غير قابل للحياة، ولذلك فإن التغيير ليس خيارا، بل هو قدر المنطقة، وقدر الشعوب والحكومات فيها، ويجب أن يبادر من تتوفر لديه الرؤية المؤسسة للإرادة، وهو المطالب بالخطوة الأولى، لأن المستكبرين ليسوا أصحاب مصلحة مباشرة، كما أنهم أبعد عن رؤية الواقع وقراءته واستقرائه، من يملك الإحساس بضرورة التغيير يجب أن يضع هذه الرغبة في مكان الفعل، وبحسب تصوري للسياسة باعتبارها فعل ثقافي أولاً ، أرى أن المثقف هو المسئول رقم واحد، وهو مطالب أن يضع تصوراته ومايؤمن به محل الفعل، ولهذا أعتقد أن قول الحق بحسب مصطلحاتنا أو ممارسة النقد كما ذكر الدكتور عارف ممارسة أساسية وضرورية في أي عمل تغييري، ونحن كثيرا ما نتحدث عن حق الإنسان في الكلام أو في التعبير، وأنا أقول إن المعادلة هنا مقلوبة، علينا أن نحي ثقافة الواجب، واجب الإنسان في قول الحق، و ليس حقه في القول، إن ممارسة واجب قول الحق هي تدشين عملي لحرية القول غير قابل للانتزاع، فما تمنحه فرمانات السلطان يمكن أن تلغيه، أما ما تؤسسه الممارسة الشعبية العلنية فلا يمكن لأحد أن يسلبه، يجب أن نمارس قول الحق وأن نوطن أنفسنا على تحمل تبعات قول الحق، لقد خطا الأخوة في مصر خطوة للأمام فلم يعد السلطان ذاتا مقدسة متعالية غير قابلة للنقد، بل أضحى ذاتا بشرية فانية يمكن نقد ممارساتها الخاطئة،

إن هذا السبيل ليس بلا أكلاف، لكن في جميع الأحوال لن تكون الأثمان كارثية، ونحن نعرف أن التغيير ليس بلا ثمن إطلاقا!

هذا تعقيب

الدكتور محمد: لي عدة ملاحظات :

الملاحظة الأولى : أشعر من خلال المداخلات التي قدمت، أنه كان من الضروري أن نحدد بعض المصطلحات في بداية اللقاء، فأنا أشعر أحياناً أن مفهوم الفعل السياسي غير واضح للجميع على نفس المستوى، أقصد أن المفهوم ليس واحدا في أذهان المشاركين، وهذا الإشكال توضح لي من خلال تعقيب الدكتور عبد العزيز، على تعليقي على العمل السياسي في المنطقة، وخاصة لما قلت إن الأحزاب السياسية التي تنشئ أجنحة عسكرية لم تعرف السياسة حتى تمارسها، في الواقع نحن لم نصنع مناخا صالحا للعمل السياسي، لا يمكن أن تُصنع السياسية وأن ُتمارس في بلد لايرى فيه أحدا إمكانية التغيير بغير القوة، إن إيماننا بالقوة كحل لمشكلة السلطة يجعل السياسة خارج وعينا، والحلول السياسية وراء ظهورنا، قد تقولون أن السلطات في كل بلد عربي هي سيدة الموقف ومالكة القوة، وأقول إن إيماننا بالقوة هو الذي يجعل القوة ومن يملكها سيدا للموقف، علينا صناعة جو إنساني، القيمة فيه للرأي، ويجب أن نميز بين الرأي والشتيمة، وعلينا أن ننشئ جيلا يعرف الرأي ويحترمه ويقدسه وهو مستعد للتضحية في سبيله، إن انسداد الأوضاع في العالم العربي، ليس سببه قوة النظم الحاكمة، إنما سببه تبلد المثقف الذي ما زال إلى الآن أسير فكرة القوة، وما لم نتخّلَ نهائيا عن فكرة القوة كحل لمشكلة السلطة فلن تخطر لنا الحلول السياسية الممكنة أو المحتملة، ولن نستطيع التحرك باتجاهها، ومن ثم زحزحة الواقع الهش المتآكل الذي فضحته حرب العراق، حيث أظهرت بلدا مثقبا متهاويا يكفي النفخ عليه ليزيله، لكن حتى عصا سليمان لم يكن لها أن تسقط لولا دابة الأرض، التي لولاها للبثت الجن في العذاب المهين كما هو إنسان العالم العربي، علينا أن نعيد تأسيس الحياة على أساس احترام الإنسان من خلال احترام عقله، وهذا لا يحدث حتى في الجامعات، أي أن مشكلة (الامامة الكبرى) - بحسب مصطلحات التراث- في عالمنا هي صورة مضخمة عن السلطات الصغيرة في مجتمعنا، وإذا لم نتمكن من ذلك فلا نلومن ألا أنفسنا، لا يمكن ممارسة الجراحة في مكب الأوساخ كما يقول الاستاذ جودت.

وفي الأجواء الملتبسة والمختلطة لن يسلم أحد، ولذلك في جائحة فيروس الأيبولا في زائير، كان الضحية الأولى مريض مصاب بالفيروس، أما الضحية الثانية فكان الطبيب الذي عالجه، فإذا كان هناك حزب صغير في مجتمع ما، وهذا الحزب تم البطش به رغم أنه لم يمارس العنف، فهذا شئ طبيعي، لأننا - كما قدمت - لايمكننا ممارسة الجراحة في أي مكان، نحن مسؤولون عن صناعة مكان يناسب إجراء الجراحة، مثلما نحن مسؤولون عن صناعة مناخ يمكن فيه ممارسة السياسة.

لما يقال نحن وصلنا للحكم بالدبابة، ومن يملك الدبابة فلينازعنا فهل هذه سياسة؟ وهل هذا مناخ لممارسة العمل السياسي؟ نحن لا نتحدث عن سياسة بل عن حرب، والحرب يخسر فيها الجميع، وإن كان البقاء فيها يجير لمصلحة الأقوياء فعلا ويحصل الجميع على نصيب متفاوت من الخراب، ومثلما قالت الدكتورة مي هذا فعل سلطة، وليس ممارسة سياسة، لذلك كان من المهم والضروري أن نعرف ماذا نقصد فعلاً بالسياسة، وبالتالي يتضح أكثر معنى الإرادة السياسية.

الملاحضة الثانية: موضوع السؤال الذي سألته للدكتورة مي ، والذي يقول : ما هو تصوركم لما يمكن أن يحدث لو كان لدى السلطات نوايا إصلاحية؟ وأنا أعتقد أن هذا الموضوع لا يجوز تخيله، لأننا عشناه حقيقة على الأقل في سوريا، من خلال ما سمي بربيع دمشق، الذي كان الدكتور عارف دليلة أحد رموزه وأحد ضحاياه في نفس الوقت، و هو جواب واقعي لما يمكن أن يحدث في حال توفرت شبه إرادة عند النخب الحاكمة، وفيما إذا لمس الناس توجها للاصلاح عند السلطة، سيكون الحال مثلما حدث في ربيع دمشق، الذي تلا خطاب القسم الشهير، وما أشاده الناس عليه من أحلام.

الملاحظة الثالثة: حول موضوع الحق والقانون الذي أشار إليه دكتور عبد العزيز، في الوقع مشكلة القانون لا تكمن في شدته أو لينه، إنما تكمن في هل يطال الجميع أم أنه ممكن التجاوز وهو يطبق بطريقة انتقائية؟ فوجود قانون يطبق على الجميع ليس مشكلة، حتى ولو كان شديدا، لكن عندما يكون هناك أناس فوق القانون وهناك أناس يطالهم القانون، هنا تحدث المشكلة، وهذا مؤذن بخراب العمران كما نعيشه في العديد من الدول العربية.

8 – ماهو الحل برأيكم لتجاوز هذا الوضع وإقناع المواطن السوري بضرورة المساهمة في الحياة السياسية؟

9 – إن معظم المواطنين السوريين فاقدي الثقة بالمؤسسات الحالية الحاكمة والمعارضة، بل وفقدان الثقة في النخب الفكرية والثقافية والسياسية المؤطرة للحياة السياسية. في رأيكم كيف نستطيع إعادة هذه الثقة للمواطن السوري؟.

10 - لماذا فشلت الأحزاب السياسية كافة في السلطة والمعارضة على ثني المواطن السوري من العزوف عن السياسة

الدكتور محمد:

إن الأسئلة الثلاث الأخيرة تبدو بالنسبة لي متداخلة، أو متقاربة أو متراكبة، فكيف يمكن أن نقنع المواطن العربي بالعمل السياسي،؟ إذا كانت النخب السياسية في السلطة والمعارضة لا تمارس السياسة؟ وكيف يمكن ممارسة السياسة في مناخ ثقافي لا يؤمن بالسياسة؟ وكيف نبني ثقة المواطن العربي بما هو مفقود إذ صح ما قدمنا من انعدام للسياسة؟ وصح ما قدما من ان النخب نفسها لاتملك مثل هذه الثقة؟

أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال تتضمن تلخيصا للطاولة بكل محاورها، وهي في نفس الوقت تساعدني على لملمة ما تفرق في إجاباتي على الأسئلة المختلفة, وبحسب ما قدمت في بحث الموضوع في إجاباتي، يمكنني القول إن الواقع العربي واقع قاحل مجدب إذا تعلق الأمر بالسياسة، وهذا الفقر في عالم السياسة الذي يصل حد الاملاق، يرجع بحسب تحليلي إلى فقر العالم الثقافي ونقص أدواته، حيث ليس لنا قدرة في العالم الثقافي على فصل معركة الفكر عن معركة الجسد، فنحن ننتمي إلى ثقافة ما زالت إلى الآن، لا تعترف بالمختلف، فنحن دينيا نقتل المرتد، وقوميا نخون المختلف ونسوغ اعدامه، أي أننا ندخل في عالم الثقافة، أدوات تفقده تجانسه للدرجة التي تبطل قيمته وتلغيه، وما يحدث في عالم الثقافة هذا يمتد بطريقة آلية إلى عالم السياسة، فنحن في السياسة لا نعرف المعرضة ولا نعترف بالمعارض، وهذا نتيجة طبيعية، لأن ما عندنا من فكر هو الذي يحدد ما نقوم به من عمل وطريقة قيامنا بهذا العمل، ففي كل زمان وفي كل مكان تقدس فيه القوة لا يمكن أن تمارس فيه السياسة، ولذلك فإن جعل السياسة ممكنة يتطلب قلبا في سلم القيم في الثقافة العربية، فما دام السيف أصدق إنباء من الكتب، فلا سبيل للسياسة، وما دامت السياسة مرفوعة فنحن ندعو الناس لخوض معارك مؤلمة كلما دعوناهم للاهتمام بقضايا الشأن العام، ولذلك وبسسبب التجارب المريرة عبر قرون عديدة، سجل المواطن العربي استقالة نهائية في العالم الذي نسميه زورا بعالم السياسة، وهو في الحقيقة عالم الحرب والموت والدم والدمار، ومن ينكر هذا ليتأمل الماضي القريب والحاضر لمعظم إن لم نقل جميع (الدول) (العربية)، وحتى يمكن إعادة المواطن العربي إلى السياسة، لا بد من خلقها، فمن غير المعقول إعادة المواطن العربي إلى ماهو مفقود، وحتى نتمكن من إيجاد السياسة لا بد من إصلاح الثقافة، ولكن الثقافة لا يمكن إصلاحها، من غير إصلاح الديانة، ذلك أن الدين هو المؤثر الأكبر في صناعة الوعي العام، وهو أساس الاجتماع البشري، والاسلام هو الرقم الصعب في معادلة القوة في هذ هى المنطقة، ويمكن الإشارة في عجالة إلى قلب بعض الاتجاهات العامة في الفكر الديني التي يمكن أن تكون عناوين على نوعية الاصلاح الديني المنشود من منظور قرآني:

أولا – نقل مصدر المعرفة من النص إلى الوجود الخارجي.

ثانيا - نقل مبحث الإيمان من الله إلى الكون والإنسان.

ثالثا - نقل مبحث الفقه من العبادات إلى المعاملات.

رابعا - نقل مبحث الاخلاق من الآخرة إلى الدنيا.

خامسا – إعادة الاعتبار لحقيقة الانسان في الرجل والمرأة

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

د. محمد العمار

درعا في 3 \ 1 \ 2009



[1] تغلب هذا الرجل في أواخر العصر العباس على منطقة وأعلن توليه عليها، فقام أحد القضاة وطلب منه أن يريهم عهد أمير المؤمنين له بتولي تلك المنطقة، وكان الليث قد أدرك مصدر الشرعية التي يستند إليها أمير المؤمنين، فنادى أحد حراسه وطلب منه أن يأتي بعهد أمير المؤمنين، فغاب الرجل قليلا ثم رجع ومعه شيء ملفوف في خرقة، فقال له افتحها ففتحها وإذ سيف في داخلها، فتعجب الجميع وعندها ابتدرهم قائلا وما هي الشرعية التي يمتلكها أمير المؤمنين غير هذا؟ فكأنه تكلم بغير المفكر فيه على شدة وضوحه!!

[2] وهذا الارتباط واضح في طبيعة الالفاظ المستخدمة لوصفهما فالدنيا تعني القريبة والأخرى تعنى الأبعد قليلا لكنهما حياة واحدة مشطورة بفعل الزمان إلى قريبة وبعيدة.

ليست هناك تعليقات: